العدم لــ فرانك كلوس




في مرحلة مبكرة من حياتنا يباغت أغلبنا هذا السؤال: «من أين جاء كل شيء؟» قد نتساءل أيضًا، أين كانت ذاتنا الواعية قبل أن نُولد؟ هل يمكنك أن تحدد ذكرياتك الأولى؟ عندما التحقتُ بالمدرسة لأول مرة، كنت أتذكر بوضوح أحداث العامين أو الثلاثة السابقة، لا سيما العطلات الصيفية التي قضيناها على شاطئ البحر، لكن عندما حاولت أن أسترجع الأحداث المبكرة في حياتي، غامت الرؤى متلاشيةً حتى العدم. قيل لي إن سبب هذا هو أنني وُلدت منذ خمس سنوات فحسب، في عام ١٩٤٥. في نفس الوقت، تحدث والداي
عن أحد الحروب، وعن أمور وقعت لهما قبل هذه الحرب، لكن لم يكن لهذا أي مدلول عندي؛ فالعالم الذي عرفته لمَّا يكن موجودًا حينها، وبدا لي أنه بدأ بمولدي، وأنه جاء مُجهزًا بآباء وكبار آخرين. كيف عاشوا «قبل» عالمي الواعي؟
ظل الفراغ الغريب الذي ابتلع كل شيء حتى عام ١٩٤٥ يزعجني، ثم وقع حدث عام ١٩٦٩ منحني منظورًا جديدًا لهذه المشكلة.
كانت أبولو ١٠ تحوم فوق سطح القمر، التي كشفت معجزة الاتصالات عن أنه أرض جرداء مهجورة من الصخور والحصى. كانت صحراء الغبار الرمادي هذه تمتد حتى أفق القمر، الذي أخذ شكلًا منحنيًا قبالة فراغ أسود مرصع بالنجوم المتناثرة؛ تلك الكرات الميتة من الهيدروجين التي تتفجر لينبعث منها الضوء. وسط هذه الصورة القاحلة، إذا بجوهرة زرقاء جميلة ذات سحب بيضاء وقارات خضراء من النباتات، ولأول مرة يشهد البشر ما يعرف ﺑ «شروق الأرض». ثمة مكان واحد على الأقل في الكون توجد به حياة، في صورة مجموعات هائلة من الذرات نُظمت على نحو يجعلها تملك وعيًا ذاتيًّا وقادرة على التحديق في الكون في تعجب.
ماذا لو لم تكن هناك حياة ذكية؟ بأي منطق كان سيوجد أي من هذا لو لم تكن هناك حياة تدركه؟ منذ عشرة مليارات عام كان من الممكن أن يكون الحال على هذا النحو: فراغ ميت يعج بسحب البلازما وكتل قاحلة من الصخور تدور في الفضاء الفسيح. مع أن حقبة «ما قبل الوعي» هذه خلت من الحياة، ولا بد أنها كانت أشبه بامتداد عظيم لنظرتي الخاصة عن الكون قبل عام مولدي التي تراقصت فيها الجاذبية دون أن يدري بها أحد، فإن الذرات نفسها التي وُجدت حينها هي نفسها التي نتكون منها نحن اليوم. نُظمت مركبات معقدة من هذه الذرات، التي كانت خاملة في السابق، لخلق ما نطلق عليه الوعي وصارت قادرة على أن تستقبل، من أطراف الكون البعيدة، ضوءًا بدأ رحلته في تلك الأوقات المبكرة الخالية من الحياة. وبمقدورنا في «حاضرنا هذا» أن نستدل على تلك الحقبة الميتة المبكرة، وهو ما يضفي عليها نوعًا من الواقعية. إننا لم نُخلق من العدم، وإنما من «مادة أصلية» أولية؛ من ذرات تكونت منذ مليارات السنين جُمعت لفترة زمنية قصيرة في أجساد البشر.
هذا يقود بدوره إلى سؤالي الأخير: ماذا لو لم يكن هناك حياة أو أرض أو كواكب أو شمس أو نجوم أو ذرات تتمتع بالقدرة على إعادة تنظيم نفسها إلى أشياء مستقبلية؛ ماذا لو كان هناك فراغ وحسب؟ بعد أن أزلت كل شيء من صورتي الذهنية عن الكون حاولت تخيل العدم المتبقي. وعندئذ اكتشفت ما أدركه الفلاسفة على مر العصور: من الصعب جدًّا التفكير في الفراغ. حين كنت طفلًا ساذجًا، لطالما تساءلت أين كان الكون قبل مولدي، والآن أحاول تخيل ماذا كان سيوجد ما لم أوُلد على الإطلاق. «إننا محظوظون لأننا سنموت»، ولن يتمتع العدد اللانهائي من الأشكال الممكنة للحمض النووي بالوعي أبدًا، خلا بضعة مليارات منها وحسب. ما الكون بالنسبة لأولئك الذين لن يولدوا أبدًا أو للأموات؟ كل الثقافات وضعت خرافاتها بشأن الموتى؛ إذ إنه من الصعب جدًّا القبول بأن الوعي يمكن أن يندثر بسهولة عندما تتوقف مضخات الأكسجين عن ضخ الأكسجين إلى المخ، لكن ما الذي يعنيه الوعي لتجميعات الحمض النووي التي لم ولن يكتب لها الوجود أبدًا؟
إن فهم كيفية بزوغ الوعي وموته يماثل في الصعوبة فهم كيفية نشأة شيء ما؛ مادة الكون، من العدم. أكان هناك فعل خلق أم أن شيئًا ما كان موجودًا على الدوام؟ أكان من الممكن حتى أن يوجد عدم إذا لم يكن هناك من يدركه؟ كلما حاولت فهم هذه الألغاز، شعرت أنني إما أقترب من الحقيقة أو أنني على حافة الجنون. مرَّت السنون، وبعدما قضيت حياتي عالمًا يحاول أن يسبر غور الكون، رجعت إلى هذه الأسئلة وقمت برحلة للعثور على الإجابات الموجودة. كانت النتيجة هي هذا الكتاب الصغير. أشعر بالإطراء حين أعرف أنني حين أوجه مثل هذه الأسئلة، فأنا بهذا أنضم إلى صحبة طيبة؛ ذلك لأن هذه الأسئلة طرحها بشكل أو بآخر بعض من أعظم الفلاسفة على مر العصور. علاوة على ذلك، لم يتفق الجميع على إجابة بعينها. من وقت لآخر، حين تسود إحدى الفلسفات على ما سواها، كانت الحكمة المكتسبة تتطور هي الأخرى. أيمكن أن يوجد خواء؛ حالة من العدم؟ يبدو أن إجابات هذه الأسئلة، شأن الأسئلة المتعلقة بوجود إله من عدمه، تعتمد على تعريفك لماهية العدم.
عندما تناول فلاسفة الإغريق القدامى هذه الأسئلة من خلال قوة المنطق، خرجوا علينا بآراء متعارضة. زعم أرسطو أنه لا يمكن أن يوجد مكان فارغ، بل ارتقى هذا الرأي إلى مقام مبدأ مفاده أن «الطبيعة تمقت الخواء». ما الذي يعنيه هذا؟ وما سبب سيادة هذا الظن لألفي عام؟ هذه من أوائل الأسئلة التي سأتناولها. في القرن السابع عشر، ومع بزوغ المنهج التجريبي، أدرك تلاميذ جاليليو أن هذا الاعتقاد يرجع إلى سوء تأويل للظواهر؛ إذ إن مقت الخواء ذلك إنما ينجم عن وجود الغلاف الجوي الذي يزن عشرة أطنان ويضغط على كل متر مربع من كل شيء موجود على الأرض، وهو ما يتسبب في إقحام الهواء في كل ثقب متاح.
كما سنرى لاحقًا، من الممكن إزالة الهواء من الأوعية وصنع فراغ. كان أرسطو مخطئًا. على الأقل هذه هي النتيجة لو لم يكن هناك سوى الهواء؛ فبإزالة الهواء سيُزال كل شيء. ومع تقدم العلم، واتساع مداركنا وحواسنا بواسطة وسائل أكثر تعقيدًا، بات جليًّا أنه ينبغي إزالة ما هو أكثر بكثير من الهواء وحسب للحصول على فراغ حقيقي. يرى العلم الحديث أنه يستحيل من حيث المبدأ صنع فراغ تام، لذا لعل أرسطو لم يكن مخطئًا في نهاية المطاف. ومع ذلك، لا يمانع العلماء المعاصرون في استخدام مفهوم الفراغ، ومن أحد تفاسير الفيزياء الحديثة أنها تصب جمَّ تركيزها على محاولة فهم طبيعة الفراغ، الزماني والمكاني، في أبعادهما المختلفة.

بيانات الكتاب


الأسم : العدم
المؤلف : فرانك كلوس
المترجم : فايقة جرجس حنا
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 164 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget