حرية التعبير لــ نايچل ووربيرتن



) أين نضع الحدود؟

إذا كنت لا تزال تؤمن — بعد قراءة ما سبق — بأن حرية الكلام لا ينبغي أن تخضع أبدًا لقيود تحت أي ظروف، فتأمل مثالًا تخيليًّا طرحه الفيلسوف توماس سكانلون: ماذا تقول في مخترع كاره للبشر اكتشف طريقة سهلة لإعداد غاز أعصاب ذي فعالية عالية من
منتجات محلية يسهل العثور عليها؟ بالتأكيد في هذا الموقف سيكون من الصائب منعه من إعطاء الوصفة لأحد أو نشرها بأي طريقة أخرى، قليل جدًّا من الناس هم من قد يود الدفاع عن حقه في حرية الكلام فيما يتعلق باختراعه الخطير؛ اختراع ليس له أي فائدة واضحة للبشرية وله العديد من الأخطار المحتملة، حتى إن كان المخترع لا يقصد استخدام اختراعه بما يضر الآخرين، فسيظل من الصواب منع هذه المعلومات الخطيرة من الانتشار على نطاق واسع، فإذا كنت تؤمن بأن حرية الكلام ينبغي الدفاع عنها في كل الأحوال، فعليك إذن أن تؤمن بضرورة الدفاع عنها حتى في حالة كهذه.

إذا بدا لك مثال مخترع غاز الأعصاب خياليًّا، فإليك مثال حقيقي لكتاب بعنوان «القاتل المأجور: دليل فني للقتلة المأجورين المستقلين.» يقدم هذا الكتاب — الذي يقال إنه أدب خيالي — إرشادات مفصلة لكيفية القتل بحذر والتخلص من الجثث، نُشر هذا الكتاب عام ١٩٨٣ في الولايات المتحدة، وزادت شهرة الكتاب عندما استأجر لورنس هورن قاتلًا مأجورًا لقتل ابنه وزوجته السابقة وممرضة ابنه من أجل الحصول على أموال التأمين، اتبع القاتل حرفيًّا التعليمات الواردة بالكتاب عن كيفية جعل المسدس صعب التعقب، واستخدام كاتم صوت منزلي الصنع، وإطلاق النار من مسافة قريبة، وما إلى ذلك. حُكم على القاتل بالإعدام، وعلى هورن بالسجن مدى الحياة، ورُفعت دعوى قضائية ضد ناشري الكتاب، وأعد الناشرون دفاعًا معتمدًا على التعديل الأول، انتهت القضية أخيرًا بتسوية مالية من جانب الناشرين، واعتبر البعض أن محاولة مقاضاة ناشري هذا الكتاب هجوم على حرية الكلام، في حين اعتبرها آخرون رد فعل أخلاقي مناسبًا لمنع التداول الواسع لعمل أوحى بارتكاب جريمة قتل وقدم دليل تعليمات لها، وربما يتكرر الأمر مرة أخرى. اعتبر معظم من يرون أن الرقابة في هذه الحالة تمثل قيدًا غير مقبول على حرية الكلام — هذا الكتاب غير مسئول وخطيرًا، إلا أنهم كانوا قلقين من خطر تقييد حرية الكلام، لا سيما أن أغلب المعلومات الواردة بالكتاب كانت متاحة بالفعل على نطاق واسع في أفلام العصابات وكتب الجرائم الواقعية، إذا أمكن إثبات أن الكتاب يحرض مباشرةً على العنف، فعندها توجد أسباب واضحة لفرض الرقابة، أما إن لم يمكن ذلك، فإن هذا يبدو تعديًا على الحرية الفردية.

عندما تقول: «أؤيد حرية الكلام.» فإن العبارة تكون ناقصة المعنى نسبيًّا دون توضيح حدود هذه الحرية، ولا تعني هذه العبارة عند أغلب الناس: «أنا أؤيد حرية الكلام في كل الظروف على الإطلاق.» إلا أن تعيين هذه الحدود ليس بالأمر السهل، فهذا يعني تحديد الوقت الذي تحظى فيه قيمة مناقضة بالأولوية على هذه الحرية، في قضية سكينك، اعتبر الأمن القومي خلال فترة الحرب (بأثر رجعي) أعلى قيمة، أما في قضية كتاب القاتل المأجور، كان يوجد قلق حقيقي من أن نشر هذا الكتاب يحمل مجازفة كبيرة بوقوع عواقب وخيمة، وربما أوحى بالفعل بارتكاب جرائم قتل متعددة.

(٦) حجة المنحدر الزلق

مع ذلك ربما يجب الاعتراض على جميع القيود المفروضة على حرية الكلام تقريبًا، على أساس أن السماح للحكومة بتقييد مثل هذه الحرية الأساسية يعني التوجه نحو منحدر زلق ينتهي حتمًا بالوصول إلى الاستبدادية، ودون «وثيقة الحقوق» ربما تكون المملكة المتحدة أكثر عرضة لهذا مقارنة بالولايات المتحدة. الواقع أن عدم الثقة في الحكومات وقدرتها على الرقابة على أسس عقلانية تشكل حافزًا مهمًّا للدفاع عن مبدأ حرية الكلام، إلا أن وجود مبدأ مثل «التعديل الأول» له مشكلاته المصاحبة؛ فهو مثل أي مبدأ يتسع لمدى عريض من التفسيرات — تمامًا كما أوضح فقه قانون «التعديل الأول» — في ظل وجود نقاشات محتدمة حول تطبيق مبدأ حرية التعبير الذي تحميه هذه المادة الدستورية، وحول القيود المفروضة عليه.

تشتمل فوائد الحفاظ على حرية الكلام — وفقًا لحجة المنحدر الزلق — على الحماية من الانزلاق إلى نظام استبدادي أو على الأقل نظام شبيه به، يقترح هذا الأسلوب ضرورة حفاظنا على حرية الكلام بسبب التبعات الحميدة التي تنتج عن ذلك، غير أنه يسهل تفنيد الصور المبالغة في التبسيط لهذه الحجة، ربما تكون المنحدرات الزلقة زلقة نوعًا ما، وفي بعض الحالات يحتمل أن يتشبث أحد برأيه ويقول «هنا وكفى.» بعبارة أخرى، حقيقة اتخاذ حكومة ما قرارًا بإعطاء أهمية للأمن القومي تفوق أهمية حرية الكلام في بعض الحالات، لا تعني أن هذه الحكومة الديمقراطية ستتحول حتمًا إلى نظام استبدادي، فالمسألة هنا تجريبية وتدور حول مدى الانحدار في مثل هذه الظروف، فحقيقة أنه يمكننا الانتقال من دولة ديمقراطية مفتوحة إلى دولة استبدادية من خلال سلسلة من الأفعال الصغيرة، لا تعني بالضرورة أننا إذا اتخذنا خطوة واحدة بعيدًا عن الديمقراطية المفتوحة فسينتهي بنا الحال إلى الاستبدادية. ولصياغة الأمر بطريقة أخرى، واستكمالًا للصورة البلاغية، يمكننا القول إن هذه المنحدرات ربما تكون زلقة نوعًا ما أو حادة الانحدار أو قليلة الارتفاع، لا بد من وجود مزيد من الأدلة التجريبية لتأييد زعم الانحدار الحتمي نحو الاستبدادية، أما النقد الآخر فيتمثل في أننا بعيدون بالفعل إلى حد ما عن المجتمع الذي يكفل حرية الكلام تمامًا، ومع ذلك لا يبدو أننا نندفع في اتجاه الاستبدادية.

بالرغم من ذلك، لا تزال لحجة المنحدر الزلق ثقلها، ففي المملكة المتحدة، فُرض قانون جديد عام ٢٠٠٥ (قانون الجرائم الخطيرة المنظَّمة والشرطة) يحظر التظاهر العام على بعد مسافة كيلومتر من مبنى البرلمان، كانت مايا إيفانز من أوائل من تعرضوا للمقاضاة بموجب هذا القانون؛ حيث أدينت لإلقائها علنيًّا أسماء من قُتلوا في العراق منذ الغزو الأخير دون تصريح من الشرطة، كان يمكن لوثيقة الحقوق أن تجعل من الصعب بل حتى من المستحيل على الحكومة فرض مثل هذا التشريع، ربما يُشار منطقيًّا إلى أن مجرد تحديد منطقة إقصاء قدرها كيلومتر واحد — كما حدث — يمكن أن يتبعه بسهولة زيادة نطاقها لتصل إلى اثنين أو ثلاثة كيلومترات، أو ربما يؤدي إلى وضع قوانين مماثلة قرب أهداف محتملة للإرهاب، ففي هذه الحالة ربما لا يؤدي المنحدر الزلق بالضرورة إلى الاستبداد، لكنه قد ينزع حريات مهمة ممن يعيشون في المملكة المتحدة؛ حريات قد تعيق أو على الأقل تضعف التظاهر السياسي، في هذا النوع من الحجج تكمن القيمة الكبرى للدستور في وجود صعوبة كبيرة في تفعيل مثل هذه القوانين الإضافية وتوسيع نطاقها.



بيانات الكتاب


الأسم : حرية التعبير
المؤلف :  نايچل ووربيرتن
المترجم : زينب عاطف
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م
Next
This is the most recent post.
رسالة أقدم

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget