التاريخ الاقتصادي العالمي لــ روبرت سي آلن




إن التاريخ الاقتصادي درَّة العلوم الاجتماعية؛ فموضوعه الرئيسي يدور حول «طبيعة وأسباب ثروة الأمم»؛ وهو عنوان الكتاب العظيم لآدم سميث. يبحث خبراء الاقتصاد عن «الأسباب» في نظرية خالدة عن التنمية الاقتصادية، فيما يجدها المؤرخون الاقتصاديون في عملية ديناميكية من التغير التاريخي. وقد صار التاريخ الاقتصادي مجالًا مثيرًا للاهتمام في السنوات الأخيرة؛ منذ
أن أصبح نطاق السؤال: «لماذا ثَمَّة دول ثرية وأخرى فقيرة؟» نطاقًا عالميًّا. قبل خمسين عامًا، كان السؤال هو: «لماذا اندلعت الثورة الصناعية في إنجلترا وليس فرنسا؟» وقد أكدت الأبحاث التي أُجرِيت حول الصين والهند والشرق الأوسط على الديناميكية المتأصلة في أعظم حضارات العالم، ومن ثَمَّ يجب أن يكون السؤال اليوم هو: لماذا انطلق النمو الاقتصادي في أوروبا وليس في آسيا أو أفريقيا؟

لا تتوفر بيانات كثيرة حول الدخول في الماضي البعيد، لكن يبدو كما لو أن الاختلافات بين الدول في مستوى الازدهار في عام ١٥٠٠ كانت صغيرة. ظهرت الفجوة الحالية بين الأثرياء والفقراء منذ أن أَبْحَرَ فاسكو دا جاما إلى الهند واكتشف كولومبس الأمريكتين.

يمكن تقسيم الخمسمائة عام الأخيرة إلى ثلاث فترات؛ تمثل الفترة الأولى — التي استمرت منذ عام ١٥٠٠ إلى حوالي عام ١٨٠٠ — «العصر الاتجاري». بدأت هذه الفترة برحلات كولومبس ودا جاما، وأدت إلى تكامل الاقتصاد العالمي وانتهت بالثورة الصناعية. أُقِيمت المستعمرات في الأمريكتين اللتين قامتا بتصدير الفضة والسكر والتبغ؛ وشُحِن الأفارقة كعبيد إلى القارتين لإنتاج هذه السلع، كما صدَّرَتْ آسيا البهارات والمنسوجات والخزف الصيني إلى أوروبا، وسَعَتِ الدول الأوروبية الرائدة إلى زيادة تجارتها من خلال إقامة المستعمرات، وفرض التعريفات الجمركية، وشَنِّ الحروب لمنع الدول الأخرى من الاتِّجار مع مستعمراتها. وقد رُوِّجت الصناعة الأوروبية على حساب المستعمرات، غير أن التنمية الاقتصادية في حد ذاتها لم تكن هي الهدف.

تغيَّرت الأوضاع في الفترة الثانية — «المواكبة» — في القرن التاسع عشر. ففي الوقت الذي هُزِم فيه نابليون في معركة ووترلو في عام ١٨١٥، كانت بريطانيا قد حقَّقت الريادة في المجال الصناعي وتفوَّقَتْ على الدول الأخرى، وقد جعلت أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية التنمية الاقتصادية أولوية لها، وسعت إلى تحقيقها من خلال بناء قياسي يتألف من أربع سياسات؛ ألا وهي: إنشاء سوق وطنية موحَّدة من خلال إلغاء التعريفات الداخلية وإقامة بنية تحتية للنقل، ووضع تعريفات خارجية لحماية صناعاتها من المنافسة البريطانية، وتأسيس بنوك للحفاظ على ثبات أسعار العملات وتمويل الاستثمارات الصناعية، وتوفير التعليم العام للارتقاء بمهارات القوى العاملة. وقد حقَّقت هذه السياسات نجاحًا في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية؛ حيث انضمت الدول في هذه المناطق إلى بريطانيا لتشكِّل ما صار معروفًا اليوم بنادي الدول الغنية، بينما تبنَّتْ بعض دول أمريكا اللاتينية هذه السياسات بصورة غير كاملة ولم تحقِّق نجاحًا كبيرًا. أدت المنافسة البريطانية إلى إعاقة التنمية الصناعية في معظم مناطق آسيا، فيما اكتفت أفريقيا بتصدير زيت النخيل والكاكاو والمعادن عند انتهاء تجارة بريطانيا في العبيد في عام ١٨٠٧.

في القرن العشرين، أثبتت السياسات التي حقَّقت نجاحًا في أوروبا الغربية — لا سيما في ألمانيا وفي الولايات المتحدة — عدم فعاليتها في الدول التي لم تحقِّق التنمية بعدُ. تُبتكر معظم التكنولوجيا في الدول الغنية، وهذه الدول تحتاج إلى رأس مال بصورة متزايدة لزيادة إنتاجية الأيدي العاملة فيها التي تتقاضى أجورًا هي الأعلى على الإطلاق. لا تُعتبَر معظم هذه التكنولوجيا الجديدة اقتصاديةً في الدول التي تنخفض فيها أجور الأيدي العاملة، لكنها في المقابل تمثِّل أهم ما تحتاج إليه هذه الدول للَّحَاق برَكْب الغرب. تبنَّتْ معظم الدول تكنولوجيا حديثة بدرجة أو بأخرى، لكنها لم تتبنَّها بالسرعة الكافية التي تمكِّنها من تخطي الدول الغنية. أما الدول التي نجحت في رَأْب الصدع مع الغرب في القرن العشرين، فقد نجحت في ذلك من خلال نموذج «الدفعة القوية»، والذي استخدم التخطيط وتنسيق جهود الاستثمار لتحقيق طفرة.

قبل أن نتعرف على «كيف» صارت بعض الدول غنية، يجب أن نحدِّد «متى» صارت هذه الدول غنية. بين عامَيْ ١٥٠٠ و١٨٠٠، حقَّقت الدول الغنية اليوم تقدُّمًا طفيفًا يمكن قياسه من خلال إجمالي الناتج المحلي لكل فرد (الجدول ١-١).1 في عام ١٨٢٠، كانت أوروبا بالفعل هي أكثر القارات ثراءً؛ فكان إجمالي الناتج المحلي لكل فرد في أوروبا يساوي ضعف مثيله في معظم أنحاء العالم. كانت أكثر الدول ازدهارًا هي هولندا التي وصل متوسط الدخل فيها (إجمالي الناتج المحلي) إلى ١٨٣٨ دولارًا أمريكيًّا للفرد. ازدهرت الدول المنخفضة خلال القرن السابع عشر، وتمثَّل السؤال الرئيسي للسياسة الاقتصادية في كل البلدان الأخرى في كيفية اللحاق بالاقتصاد الهولندي، وكان البريطانيون يحاولون تحقيق ذلك. كان فتيل الثورة الصناعية قد اشتعل قبل جيلين، وكانت بريطانيا العظمى ثاني أغنى اقتصاد؛ حيث وصل متوسط الدخل فيها إلى ١٧٠٦ دولارات أمريكية في عام ١٨٢٠ للفرد، أما دول أوروبا الغربية والدول التي كانت تتبع بريطانيا (كندا وأستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية) فقد تراوح متوسط الدخل للفرد فيها بين ١١٠٠ و١٢٠٠ دولار أمريكي. تخلَّفَتْ باقي دول العالم حيث تراوح متوسط دخل الفرد بين ٥٠٠ دولار أمريكي و٧٠٠ دولار أمريكي، وكانت أفريقيا هي القارة الأكثر فقرًا؛ حيث بلغ متوسط دخل الفرد فيها إلى ٤١٥ دولارًا أمريكيًّا.



بيانات الكتاب


الأسم : التاريخ الاقتصادي العالمي
المؤلف :  روبرت سي آلن
المترجم : محمد سعد طنطاوي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 179 صفحة
الحجم : 6ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget