مكيافيللي لــ كوينتن سكينر



إفادةً بأكثر الطرق انطباعًا في الذاكرة، فعليه أن يستخدم أسلوبًا بلاغيًّا قويًّا. وقد أعلن سالوست في بداية «حرب كاتيلين» أن الصعوبة الخاصة التي ينطوي عليها التاريخ تكمن في حقيقة أن «أسلوب الكلام
ووقعه يجب أن يكونَا على مستوى الأفعال المسجلة» (٣ : ٢). ومكيافيللي يأخذ أيضًا هذا المبدأ على محمل الجد، لدرجة أنه قرَّرَ في صيف عام ١٥٢٠ أن يصوغ «أنموذجًا» أسلوبيًّا لسرد تاريخي، ووزَّعَ صيغته التمهيدية على أصدقائه في أورتي أوريتشلاري بهدف التماس تعليقاتهم على النهج الذي سلكه. كان الموضوع الذي اختاره مكيافيللي لهذا النموذج هو سيرة حياة كاستروتشو كاستراكاني، طاغية بدايات القرن الرابع عشر الذي كان يحكم مدينة لوكا، لكن مكيافيللي لم يكن مهتمًّا بتفاصيل حياة كاستروتشو — التي كان بعض تفاصيلها من اختلاق مكيافيللي — بقدر ما كان مهتمًّا بالعمل على اختيارها وترتيبها بطريقة راقية ومفيدة. فالوصف الافتتاحي لميلاد كاستروتشو وتقديمه على أنه لقيط، ليس سوى وصف مُختلَق، لكنه يمنح مكيافيللي الفرصةَ لكتابة كلام حماسي طنان عن نفوذ «الحظ» في الشئون الإنسانية (٥٣٣-٥٣٤). وحينما يبدأ كاستروتشو — الذي تلقَّى تعليمه على يد كاهن — في شبابه في «شغل نفسه بالأسلحة»، هذا أيضًا يمنح مكيافيللي فرصةً ليقدِّم شكلًا من الجدل الكلاسيكي حول الهوايتين المتعارضتين المتمثلتين في الأدب والقتال (٥٣٥-٥٣٦). أما الخطاب الذي يلقيه الطاغية بأشدِّ الندم لحظة موته، فيمثِّل هو الآخَر أفضل تقاليد أسلوب التأريخ القديم (٥٥٣-٥٥٤). ثم تُختتَم القصة بأمثلة عديدة على ذكاء كاستروتشو اللامع، وإن كانت أغلب الأمثلة مسروقة مباشَرةً في حقيقة الأمر من «حياة الفلاسفة» لديوجينس لارتيس، وجرى إدراجها لمجرد إضفاء طابع بلاغي (٥٥٥–٥٥٩).



عندما أرسل مكيافيللي كتابَ «حياة كاستروتشو» إلى صديقَيْه ألاماني وبونديلمونتي، لاقَى الكتاب منهما استحسانًا كبيرًا باعتباره بروفة للعمل التاريخي الضخم الذي كان مكيافيللي يأمل في أن يكتبه في ذلك الوقت. فقد ردَّ بونديلمونتي على مكيافيللي في رسالة كتبها له في سبتمبر عام ١٥٢٠، تحدَّثَ فيها عن كتاب «حياة كاستروتشو» بوصفه «نموذجًا لسردك التاريخي»، وأضاف أنه لهذا السبب يعتقد أن من الأفضل التعقيب على النص «من حيث اللغة والأسلوب في المقام الأول»، وأعرب عن بالغ إعجابه بانطلاقاته البلاغية، قائلًا إنه استمتع بخُطبة فراش الموت المبتكرة «أكثر من أي شيء آخَر». ثم قال لمكيافيللي أكثر أمر يُظنُّ أنه كان يرغب في سماعه وهو يتأهَّب لخوض هذا المعترك الأدبي الجديد، وهو: «يبدو لنا جميعًا أنك الآن لا بد أن تشرع في العمل على كتابة سردك التاريخي بمنتهى الاجتهاد» (م ٣٩٤-٣٩٥).

حينما عكف مكيافيللي كما ينبغي على كتابه سرده التاريخي بعد بضعة أشهر، استخدم هذه الأدوات الأسلوبية في عمله على نحو مدروس، فقد صيغ الكتاب بأكثر أساليبه توظيفًا للأقوال المأثورة ولطريقة المُقابَلَة والتضاد، وتتكرر فيه كل الموضوعات الرئيسية لنظريته السياسية لكن في ثوب بلاغي. في الكتاب الثاني، على سبيل المثال، يقدِّم مكيافيللي مشهدًا يقف فيه أحد «السادة» في مواجهة دوق أثينا ليلقي على مسامعه خطابًا مؤثِّرًا عن «اسم الحرية، الذي لا تسحقه أي قوة، ولا يُبليه طول الدهر مهما طال، ولا يضارعه أي منال» (١١٢٤). وفي الكتاب التالي يلقي أحد المواطنين العاديين خطابًا ساميًا بالقدر نفسه على مسامع «السيد» عن موضوع «القوة» والفساد، وعن ضرورة أن يخدم كلُّ مُواطِنٍ الصالحَ العامَّ دائمًا (١١٤٥–١١٤٨). وفي الكتاب الخامس يحاول رينالدو ديجلي آلبيتزي أن يلتمس عون دوق ميلانو ضد نفوذ عائلة مديتشي المتنامي بخطاب آخَر عن «القوة» والفساد، وواجب المواطن أن يقدِّم ولاءه للمدينة التي «تحب كل مواطنيها بالقدر نفسه»، لا للمدينة التي «تخضع إلى قلة قليلة من مواطنيها وتتجاهل كلَّ الآخَرين» (١٢٤٢).



بيانات الكتاب

الأسم : مكيافيللي
المؤلف :  كوينتن سكينر
المترجم : رحاب صلاح الدين
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 109 صفحة
الحجم : 9 ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget