مايو 2018


أثارَ التكوين الطوبيُّ المستطيل الشكل، الذي قدَّمه الفنان كارل أندريه تحت عنوان «تساوي ٨» (١٩٦٦)، استياءَ الكثير عند عرضه في معرض تيت الفني في لندن، عام ١٩٧٦. ينتمي هذا العمل الفني بجدارة إلى عالم ما بعد الحداثة، ورغم الموضع الذي يحتله حاليًّا في معرض تيت للأعمال الفنية الحديثة، فإنه لا
يتوافق مع الكثير من مبادئ فن النحت الحديث؛ فهو ليس بالعمل المعقد أو المعبِّر على المستوى التركيبي، ولا يتمتع بجاذبية خاصة تَدفعُ للنظر إليه، وبالتأكيد يبعث سريعًا على الملل، فضلًا عن سهولة صنع عمل مماثل له. وبما أن «تساوي ٨» يخلو من أي سمات تجعله مثيرًا للاهتمام في حد ذاته (باستثناء متصوفي الأرقام من أتباع المدرسة الفيثاغورية)؛ فإنه يدفعنا إلى طرح أسئلة حول سياقه بدلًا من محتواه، مثل: «ما الهدف منه؟» أو «لماذا يُعرض في متحف؟» إذ أصبح من الضروري طرح نظرية ما حول هذا العمل الفني لتعويض الفراغ الناتج عن كونه لا يثير الاهتمام، وهو ما يعكس أيضًا سمة نموذجية إلى حدٍّ ما من سمات ما بعد الحداثة. قد يبعث العمل على طرح أسئلة من قبيل: «هل هذا فن حقًّا، أم مجرد كومة من الطوب تتظاهر بكونها فنًّا؟» لكن هذا السؤال لا يعكس الكثير من المنطق في حقبةِ ما بعد الحداثة؛ حيث من المقبول عمومًا أن المعرض «كمؤسسة» — لا أي جهة أخرى — هو ما جعل هذا العمل «عملًا فنيًّا» قائمًا بالفعل؛ فالفنون المرئية ليست سوى ما يعرضه لنا أمناء المتاحف، سواء أكانت أعمالًا لبيكاسو أم أبقارًا مقطعة شرائح، بينما تقع على عاتقنا مسئولية مواكَبة الأفكار المحيطة بتلك الأعمال.


يود العديد من فناني ما بعد الحداثة (وبالطبع حلفاؤهم من مديري المتاحف) أن ننشغل بتلك الآراء المتعلقة بالأفكار التي قد تحيط بهذا الفن «التبسيطي». إن بساطة كومة الطوب هي سمة تصميمية مقصودة، فهي تتحدى الخصائص المعبِّرة شعوريًّا التي ميَّزت الفنَّ السابق (الحداثي) وتنكرها. فمثل تمثال «المبولة» الشهير أو عجلة الدراجة الموضوعة فوق كرسي صغير للفنان دوشامب، يختبر هذا العمل ردود فعلنا الفكرية وتقبُّلنا للأعمال التي تعرضها المعارض الفنية على جمهورها. ويعكس بعض نقاط التحول الأساسية، التي تضيف بعض الافتراضات حول الفن التي تنكر طبيعته إلى حدٍّ كبير. يقول أندريه: «إن ما أحاول إيجاده هو مجموعات من الجزيئات، والقواعد التي تجمعها بأبسط طريقة.» ويزعم أن وحدات الطوب المتساوية التي قدمها «تتمتع بطابع شيوعي؛ لأن شكلها مفهوم لجميع الناس على حدٍّ سواء.»
لكن هذا العمل النحتي — رغم التفسيرات التي قد تراه مقبولًا اجتماعيًّا وثقافيًّا — لا يكاد يضاهي في متعته تمثال «القبلة» لرودين، أو الأعمال التجريدية الأكثر تعقيدًا بمراحل لنحَّاتين أمثال أنتوني كارو. إن طليعية أندريه النظرية — التي تتحدى ردود فعلنا الفكرية — تُلمح إلى أن المتع المستقاة من الأعمال الفنية السابقة هي متع مشكوك فيها نوعًا ما؛ إذ إن النزعة التطهرية و«الدعوة إلى التساؤل»، وإشعار الجمهور بالذنب أو بالاضطراب، كلها سمات ترتبط ارتباطًا وثيقًا عبر أعمال مثل هذه. وهي اتجاهات تميِّز كثيرًا من الفن ما بعد الحداثي، وغالبًا ما تتضمن بُعدًا سياسيًّا. ويواصل العمل الفني الحائز على جائزة تيرنر عام ٢٠٠١ للفنان مارتن كريد مسيرةَ هذا الاتجاه، فهو عبارة عن غرفة فارغة؛ حيث تضيء مصابيح كهربائية ثم تنطفئ.

بيانات الكتاب

الأسم : ما بعد الحداثة
المؤلف : كريستوفر باتلر
المترجم :نيڤين عبد الرؤوف
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م



قبل أن يبدأ الباحثون بزمنٍ طويلٍ في جَمْع الأدلة المادية على أَوْجُه الشبه المتعددة بين الإنسان الحديث والحيوانات الأخرى، وقبل أن يضع تشارلز داروين وجريجور مندل أُسُس فهمنا للمبادئ والآليات التي يقوم عليها الترابط في عالم الأحياء؛ كان فلاسفة الإغريق قد توصَّلوا إلى أن البشرية الحديثة كانت جزءًا من العالم الطبيعي، وليست منفصلةً عنه. متى إذنْ بدأتْ عملية استخدام العقل في محاولة فَهْم أصول الإنسان، وكيف تطوَّرت؟ ومتى طُبق الأسلوب العلمي لأول مرةٍ في دراسة تطوُّر الإنسان؟
قدَّم أفلاطون وأرسطو في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد أوَّل أفكارٍ مسجَّلةٍ عن أصل البشرية؛ إذ أشار هذان الفيلسوفان الإغريقيان إلى أن العالم الطبيعي بأكمله، بما في ذلك الإنسان الحديث، يُشكِّل نظامًا واحدًا؛ يعني هذا أن الإنسان الحديث لا بد أنه نشأ تمامًا مثل الحيوانات الأخرى. وقد اقترح الفيلسوف الروماني لوكريتيوس، الذي كتب مؤلفاته في القرن الأول قبل الميلاد، أن البشر القدامى لم يكونوا يُشبهون الرومان المعاصرين، وقال إن أسلاف البشر كانوا سكانَ كهوفٍ يُشبهون الحيوانات، ولم يملكوا أدواتٍ أو لغة. لقد رأى كلٌّ من المفكرين الإغريق والرومان القدامى أن صُنع الأدوات والنار واستخدام اللغة الشفهية عناصرُ أساسية للبشرية؛ ومن ثَمَّ نشأتْ فكرة تطوُّر الإنسان الحديث من شكلٍ بدائيٍّ أقدم في الفكر الغربي في وقتٍ مبكر.
(١) الإيمان يحلُّ محل المنطق


عقب انهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي حلَّت محلَّ الأفكار الإغريقية الرومانية عن خلق العالم والبشرية القصةُ المذكورةُ في سِفر التكوين؛ وبذا حلَّت التفسيراتُ الدينيةُ محلَّ التفسيرات المنطقية.
إن الأجزاء الرئيسية في هذه القصة معروفة؛ فقد خلق الله البشر في شكل رجل، هو آدم، ثم سيدة؛ حواء. ولأن آدم وحواء كانا من صُنع الله لم يكن بُدٌّ من أن يُزوَّدا باللغة والعقول العاقلة والمثقفة. ووفقًا لهذه النسخة من أصول الإنسان، استطاع البشر الأوائل الحياة معًا في انسجام، وكانوا يمتلكون جميع القدرات العقلية والخُلقية التي تجعلهم — وفقًا لرواية الإنجيل — أعلى مكانةً من الحيوانات الأخرى وتُميِّزهم عنها.
أما تفسير الإنجيل للأعراق المختلفة للإنسان الحديث، فهو أنها نشأتْ عندما هاجرت ذرية نُوحٍ إلى أجزاءٍ مختلفةٍ من العالم عقب الطوفان العظيم الأخير المذكور في الإنجيل. نحن نُطلق على أي شيءٍ بالغ القدم كلمة «عتيق»، أو يرجع تاريخه إلى «ما قبل الطوفان». كما كان لتفسيرات خلق عالم الكائنات الحية التي تشتمل على حدوث فيضاناتٍ متتاليةٍ دلالاتٌ للعلم الذي سيُعرف فيما بعدُ باسم علم الحفريات؛ فكل الحيوانات التي تُخلق عقب أحد الفيضانات لا بد أن تموت في وقت حدوث الفيضان التالي؛ لذا لا يمكن أبدًا أن تكون حيوانات «ما قبل الطوفان» قد عاشتْ مع الحيوانات التي حلَّت محلها. وسنعود إلى الحديث في هذا الشأن والدلالات الأخرى لنظرية تأثير الطوفان العظيم في موضعٍ لاحقٍ من هذا الفصل.
احتوى الإنجيل أيضًا على تفسيرٍ للتنوُّع الغني في لغات البشر؛ فيقول إنَّ الله أراد زيادة الارتباك بين الناس الذين يبنون برج بابل، وإنه فعل ذلك عن طريق إيجادِ لغاتٍ لا يفهم بعضُهم بعضًا بها. وفي رواية سِفْر التكوين لأصول الإنسان كان نجاح إغواء الشيطان لآدم وحواء في جنة عدن هو ما أجبرهما وذريتَهما على أن يتعلَّموا من جديدٍ الزراعةَ وتربية الحيوانات. وكان لزامًا عليهم إعادة اختراع كل الأدوات اللازمة للحياة المتحضرة.


بيانات الكتاب

الأسم : تطوُّر الإنسان
المؤلف : برنارد وود
المترجم :زينب عاطف
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م



لا يمكن في مقدمة قصيرة عن فكر أوغسطينوس أن تُعرَض أيضًا سيرةٌ ذاتية له. فنظرًا لأنه كَتَب أشهر السِّيَر الذاتية القديمة وأكثرها وقعًا وأثرًا، جَذَب الجانب النفساني للرجل وشخصيته بطبيعة الحال اهتمامًا شديدًا. كان يتمتع بين القدماء بقوة لا مثيل لها على التعبير عن المشاعر. وكتاباته أيضًا تُعدُّ مصدرًا أساسيًّا للتاريخ الاجتماعي لعصره. ليس في وسع هذا الكتاب أن يتناول ذاك الجانبَ من
شخصيته، لكنه يُعنى بِتَشَكُّل عقليته. وكان هذا التشكل عملية طويلة؛ حيث إنه بدَّل رأيه بخصوص بعض النقاط، وطوَّرَ وجهة نظره بخصوص نقاط أخرى. ووصف نفسه ﺑ «الرجل الذي يكتب وهو يتطور، والذي يتطور وهو يكتب» (الرسائل Epistulae). وكانت التحولاتُ التي شهدها وثيقةَ الصلة بضغوط الخلافات المتعاقبة التي لعب فيها دورًا؛ ولذا فإن الإشارة المرجعية للبيئة التاريخية محوريةٌ للفهم. ولكننا، بخلاف ذلك، لسنا معنيين هنا ﺑ «حياته وأيامه».


وُلد أوريليوس أوغسطينوس عام ٣٥٤ ميلاديًّا وتُوفِّيَ عام ٤٣٠. وقد عاش كلَّ حياته، فيما خلا خمسة أعوام منها، في شمال أفريقيا الخاضع للحكم الروماني، وكان خلال الأربعة والثلاثين عامًا الأخيرة من عمره أسقفًا لمدينة بحرية تضج بالحركة والنشاط، كانت تُعرف آنذاك باسم هيبو، وتُمثلها الآن مدينة عنابة بالجزائر. وفي ميناء هيبو، كانت الكتب حِكرًا على القديس أوغسطينوس، ولم تكن خلفية عائلته ذات ثقافة عالية، فقد حصَّلَ هو تلك الثقافةَ من طريق التعليم. ومن خلال كتاباته التي يتجاوز ما تبقَّى منها ما وضعه أيُّ مؤلِّف قديم، أمسى يُمارس أثرًا واسعًا لا على معاصريه وحسب، بل وخلال السنوات اللاحقة أيضًا على الغرب بأسره. ويمكن إيجاز مدى هذا الأثر بواسطة سرد النقاشات التي كانت جزءًا من إرث الرجل:
(١)


كان لاهوت وفلسفة أساتذة جامعات العصور الوسطى وبُناة تلك الجامعات ضاربَيْن بجذورهما في الأفكار الأوغسطينية عن العلاقة بين الإيمان والعقل. عندما جمع بيتر لومبارد كتابه «الحِكَم» (١١٥٥) ليقدم مرجعًا أساسيًّا لعلم اللاهوت، استقى نسبةً كبيرة من أفكاره من القديس أوغسطينوس. وكذا معاصره جراتيانُ استَشهد بالعديد من النصوص من أوغسطينوس؛ إذ ألَّفَ المرجع الأساسي للقانون الكنسي.
(٢)
لم تتملَّص طموحات الصوفيين الغربيين قطُّ من أثره؛ وذلك إلى حدٍّ كبير نظرًا لمركزية فكرة حب الرب في تفكيره. لقد رأى أولًا المفارقة التي مفادها أن الحب الباحث عن السعادة الشخصية يوحي ضمنًا، بضرورة الحال، بشيءٍ من إنكار الذات وألم تحوُّل الإنسان إلى شيء بخلاف ذاته الحقيقية.
(٣)
وجد الإصلاح دعامته الأساسية في نقد التنسُّك الكاثوليكي في العصور الوسطى باعتباره يستند إلى الجهود البشرية بقدرٍ أكثر من النعمة الإلهية. وردَّت حركة الإصلاح المضاد بأن المرء يستطيع أن يؤكد سيادة نعمة الله دون أن ينكر أيضًا حرية الإرادة والقيمة (أي «الجدارة») الأخلاقية للسلوك الحسن. والْتَجأ طرفا الجدل كلاهما بدرجة كبيرة إلى نصوص أوغسطينوس.
(٤)
شهد القرن الثامن عشر انقسامًا شديدًا بين الذين يؤكدون كمال الإنسان والذين يرون طبيعة الإنسان مثقلة بثقل الغرور الشخصي والجمعي؛ وبتعبير آخر بما أطلق عليه أوغسطينوس «الخطيئة الأصلية». آمن رجالات التنوير بأن الكمال الفعلي للإنسان يُعرقله الإيمان بالخطيئة الأصلية، ولم يَرُق لهم أوغسطينوس كثيرًا. واستاءوا إذ وافق الفيلسوف كانط الذي أعلن بفصاحة شديدة المبدأ التنويريَّ الذي يقضي بأنه على المرء أن يجازف بالتفكير بنفسه على المبدأ القائل بأن الطبيعة البشرية يشوِّهها الشرُّ المتطرف المتفشي.




يمتد تاريخ الرياضيات حتى أربعة آلاف عام مضَتْ على الأقل، ويوجد في كل حضارة وثقافة، وربما يكون من الممكن — حتى في مقدمة قصيرة جدًّا كهذا الكتاب — أن نوجز بعضًا من أهم الأحداث والاكتشافات بترتيب زمني تقريبي. وفي الحقيقة، ربما يكون هذا ما سيتوقَّعه أغلب القرَّاء؛ ومع ذلك، قد تواجِهنا عدَّة مشكلات في هذا العرض.
أولى تلك المشكلات أن مثل هذه الروايات تنزع إلى تصوير رؤية تقدمية لتاريخ الرياضيات، يكون فيها الفهمُ الرياضي عامةً مدركًا للتطوُّر والتقدُّم نحو الإنجازات الرائعة المتحققة في الوقت الحاضر. لكن لسوء الحظ، فإن مَن يبحثون عن أدلة على هذا التقدُّم يميلون إلى التغاضي عن التعقيدات والزلَّات والطرق المسدودة، التي هي جزء يتعذَّر اجتنابه في أي مسعًى بشري، بما في ذلك الرياضيات، وأحيانًا يمكن أن يكون الفشل ملهِمًا وموحيًا مثل النجاح. وإلى جانب هذا، بجَعْل رياضياتِ الوقت الحاضرِ المعيارَ الذي تُقاس عليه المجهودات الأقدم؛ قد نخاطر بالنظر إلى إسهامات الماضي بوصفها إسهاماتٍ جريئةً، ولكنها في النهاية جهود عَفَا عليها الزمن. بدلًا من ذلك، عند النظر إلى الكيفية التي نشأَتْ بها هذه الحقيقة أو تلك النظرية، فإننا بحاجة إلى رؤية الاكتشافات في سياق زمنها ومكانها.
ثمة مشكلة أخرى، سأتكلَّم عنها فيما بعدُ أكثر من ذلك؛ هي أن الروايات الزمنية تتبع غالبًا أسلوبَ «الأحجار المتفرقة»، الذي تُوضَع فيه المكتشَفات أمامنا واحدًا بعد الآخَر، دون كل الروابط المهمة الموجودة بينها. إن هدف المؤرخ ليس مجرد تجميع قوائم تواريخ للأحداث، وإنما إلقاء الضوء على المؤثرات والتفاعلات التي أدَّت إليها؛ وسيكون هذا موضوعًا متكرِّرًا في هذا الكتاب.
وثمة مشكلة ثالثة تتمثَّل في أن تلك الأحداث والاكتشافات المهمة تأتي مصاحِبةً لأُناسٍ مهمين؛ وعلاوةً على هذا، تركِّز الغالبيةُ العظمى من تواريخ الرياضيات على أولئك الذين عاشوا في أوروبا الغربية منذ القرن السادس عشر تقريبًا، وعلى الذكور تحديدًا؛ وهذا لا يعكس بالضرورة تمركُزًا أوروبيًّا أو توجُّهاتٍ منحازةً جنسيًّا من جانب الكُتَّاب. إن التطور السريع للرياضيات في الثقافة الذكورية في أوروبا منذ عصر النهضة، أدَّى إلى قدر كبير من المادة، رأى المؤرخون — وهم مُحِقُّون — أنها تستحِقُّ البحث والاستقصاء، وإلى جانب هذا لدَيْنا ثروة من المصادر من أوروبا لهذه الفترة، تقابلها فقط حفنة، بتعبير نسبي، لأوروبا ما قبل العصور الوسطى، أو الصين أو الهند أو الولايات المتحدة. ولحسن الحظ، فإن وفرةَ المصادر وإمكانيةَ الوصول إليها في بعض هذه المناطق الأخرى في سبيلهما إلى التحسُّن. ومهما يكن، تَبْقَ الحقيقة أن التركيز على المكتشفات الكبيرة يتغافل عن الخبرة الرياضية لمعظم الجنس البشري؛ النساء، والأطفال، والمحاسبين، والمدرسين، والمهندسين، وعمَّال المصانع وغيرهم، بل يغفل أيضًا عن قارات وقرون كاملة. من الواضح أن هذا لن يفيدنا في شيء. ودون إنكارٍ لقيمة بعض الإنجازات الجديرة بالذكر (وسيبدأ هذا الكتاب بواحد منها)، فإنه يجب أن تكون هناك طرق للتفكير في التاريخ من منظور الأشخاص الكثيرين الذين يمارسون الرياضيات، وليس مجرد قلة.
لن يستطيع هذا الكتاب أن يُقوِّم التحيُّزَ الذكوري في معظم روايات تاريخ الرياضيات إلا قليلًا، ومع ذلك فإنه يستطيع أن يقدِّم أكثرَ من مجرد مجامَلة لفظية للقارات الأخرى، خلا القارة الأوروبية، وسيحاول أن يستكشف كيف وأين ولماذا مُورِسَت الرياضيات على يد أُناسٍ لن تظهر أسماؤهم أبدًا في المسارد التاريخية القياسية. ولكن يتطلَّب عمل هذا شيئًا مختلفًا عن البحث الزمني المعتاد.
النموذج البديل الذي أَقترِح تتبُّعَه هو البناء حول الموضوعات وليس الفترات. سيركِّز كلُّ فصل على حالتَيْ دراسةٍ أو ثلاث، اختيرت ليس لأنها بأية طريقة شاملة أو جامعة، ولكن على أمل أنها ستوحي بأفكار وأسئلة وطرائق حديثة في التفكير. في الوقت نفسه، وتماشيًا مع المبادئ التي صرَّحْتُ بها أعلاه، حاولتُ — حيثما كان ذلك ممكنًا — إظهارَ أوجُه الشبه والاختلاف بين القصص المختلفة؛ بحيث يكون القرَّاءُ قادرين على تكوين رؤية مترابطة لعدد قليل على الأقل من جوانب التاريخ الطويل جدًّا للرياضيات. إن هدفي ليس فقط توضيح كيفية تناول المؤرخين المحترفين الآن لفرع معرفتهم ودراستهم، وإنما توضيح الكيفية التي يمكن أن يفكِّر بها أيضًا الشخص العادي في تاريخ الرياضيات


بيانات الكتاب

الأسم : تاريخ الرياضيات
المؤلف : جاكلين ستيدال
المترجم : محمد عبد العظيم سعود
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م



لا يمكن في مقدمة قصيرة عن فكر أوغسطينوس أن تُعرَض أيضًا سيرةٌ ذاتية له. فنظرًا لأنه كَتَب أشهر السِّيَر الذاتية القديمة وأكثرها وقعًا وأثرًا، جَذَب الجانب النفساني للرجل وشخصيته بطبيعة الحال اهتمامًا شديدًا. كان يتمتع بين القدماء بقوة لا مثيل لها على التعبير عن المشاعر. وكتاباته أيضًا تُعدُّ مصدرًا أساسيًّا للتاريخ الاجتماعي لعصره. ليس في وسع هذا الكتاب أن يتناول ذاك الجانبَ من شخصيته، لكنه يُعنى بِتَشَكُّل عقليته. وكان هذا التشكل عملية طويلة؛ حيث إنه بدَّل رأيه بخصوص بعض

النقاط، وطوَّرَ وجهة نظره بخصوص نقاط أخرى. ووصف نفسه ﺑ «الرجل الذي يكتب وهو يتطور، والذي يتطور وهو يكتب» (الرسائل Epistulae). وكانت التحولاتُ التي شهدها وثيقةَ الصلة بضغوط الخلافات المتعاقبة التي لعب فيها دورًا؛ ولذا فإن الإشارة المرجعية للبيئة التاريخية محوريةٌ للفهم. ولكننا، بخلاف ذلك، لسنا معنيين هنا ﺑ «حياته وأيامه».


وُلد أوريليوس أوغسطينوس عام ٣٥٤ ميلاديًّا وتُوفِّيَ عام ٤٣٠. وقد عاش كلَّ حياته، فيما خلا خمسة أعوام منها، في شمال أفريقيا الخاضع للحكم الروماني، وكان خلال الأربعة والثلاثين عامًا الأخيرة من عمره أسقفًا لمدينة بحرية تضج بالحركة والنشاط، كانت تُعرف آنذاك باسم هيبو، وتُمثلها الآن مدينة عنابة بالجزائر. وفي ميناء هيبو، كانت الكتب حِكرًا على القديس أوغسطينوس، ولم تكن خلفية عائلته ذات ثقافة عالية، فقد حصَّلَ هو تلك الثقافةَ من طريق التعليم. ومن خلال كتاباته التي يتجاوز ما تبقَّى منها ما وضعه أيُّ مؤلِّف قديم، أمسى يُمارس أثرًا واسعًا لا على معاصريه وحسب، بل وخلال السنوات اللاحقة أيضًا على الغرب بأسره. ويمكن إيجاز مدى هذا الأثر بواسطة سرد النقاشات التي كانت جزءًا من إرث الرجل:
(١)


كان لاهوت وفلسفة أساتذة جامعات العصور الوسطى وبُناة تلك الجامعات ضاربَيْن بجذورهما في الأفكار الأوغسطينية عن العلاقة بين الإيمان والعقل. عندما جمع بيتر لومبارد كتابه «الحِكَم» (١١٥٥) ليقدم مرجعًا أساسيًّا لعلم اللاهوت، استقى نسبةً كبيرة من أفكاره من القديس أوغسطينوس. وكذا معاصره جراتيانُ استَشهد بالعديد من النصوص من أوغسطينوس؛ إذ ألَّفَ المرجع الأساسي للقانون الكنسي.
(٢)
لم تتملَّص طموحات الصوفيين الغربيين قطُّ من أثره؛ وذلك إلى حدٍّ كبير نظرًا لمركزية فكرة حب الرب في تفكيره. لقد رأى أولًا المفارقة التي مفادها أن الحب الباحث عن السعادة الشخصية يوحي ضمنًا، بضرورة الحال، بشيءٍ من إنكار الذات وألم تحوُّل الإنسان إلى شيء بخلاف ذاته الحقيقية.
(٣)
وجد الإصلاح دعامته الأساسية في نقد التنسُّك الكاثوليكي في العصور الوسطى باعتباره يستند إلى الجهود البشرية بقدرٍ أكثر من النعمة الإلهية. وردَّت حركة الإصلاح المضاد بأن المرء يستطيع أن يؤكد سيادة نعمة الله دون أن ينكر أيضًا حرية الإرادة والقيمة (أي «الجدارة») الأخلاقية للسلوك الحسن. والْتَجأ طرفا الجدل كلاهما بدرجة كبيرة إلى نصوص أوغسطينوس.
(٤)
شهد القرن الثامن عشر انقسامًا شديدًا بين الذين يؤكدون كمال الإنسان والذين يرون طبيعة الإنسان مثقلة بثقل الغرور الشخصي والجمعي؛ وبتعبير آخر بما أطلق عليه أوغسطينوس «الخطيئة الأصلية». آمن رجالات التنوير بأن الكمال الفعلي للإنسان يُعرقله الإيمان بالخطيئة الأصلية، ولم يَرُق لهم أوغسطينوس كثيرًا. واستاءوا إذ وافق الفيلسوف كانط الذي أعلن بفصاحة شديدة المبدأ التنويريَّ الذي يقضي بأنه على المرء أن يجازف بالتفكير بنفسه على المبدأ القائل بأن الطبيعة البشرية يشوِّهها الشرُّ المتطرف المتفشي.




بيانات الكتاب

الأسم : أوغسطينوس
المؤلف : هنري تشادويك
المترجم : أحمد محمد الروبي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م




تنتشر آلهة الهندوس، سواء الذكور منها والإناث، في كل مكان بالهند؛ فتَجِدها مختفية داخل معابد خلَّابة ومزارات صغيرة على جانب الطريق، وتَجِدها أيضًا مرسومة في نقوش حجرية متداخِلة، كما تنتشر صورها في الإعلانات التجارية والتقويمات المطبوعة ولافتات الإعلان عن الأفلام، وتُوجد أيضًا على أكشاك البيع وواجهات المتاجر على شكل حُلِيٍّ ومنحوتات صغيرة. إنها منسوجة في نسيج الحياة في القرى والمدن الهندية، ويمكن العثور عليها اليوم أيضًا في المجتمعات الهندوسية من جزر الكاريبي إلى
أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة، ومن جنوب أفريقيا إلى تايلاند. تلك الآلهة تَحظَى بإعجاب الجميع، والأماكن العديدة التي تَظهَر بها وتعدُّد الأشكال التي تتخذها؛ دليل على تنوع وثراء الثقافة الهندوسية.
لكن الهندوسية تتجاوَز نطاقَ الثقافة لتَصِل إلى نطاقات أخرى، مثل التركيب الاجتماعي والحياة الاجتماعية للهندوس، والقضايا الأخلاقية، والقضايا السياسية المتعلقة بالمساواة والنزعة القومية. تؤثِّر الهندوسية المعاصِرة بما تحتويه من قصص وتعاليم وطقوس قديمة في العديد من جوانب حياة الهنود داخل شبه القارة الهندية وفيما وراءَها حتى إننا بدأنا نتساءل عن كيفية تعريفها. فهل من المناسب أن نُطلِق عليها «ديانة»؟ هل هي شبيهة بالمسيحية أو الإسلام؟ فيمَ تختلف عنهما؟ وهل تتعارض في الواقع مع أفكارنا عن طبيعة الأديان؟


يأخذنا هذا الكتاب الذي يُعَدُّ مقدِّمة عن الهندوسية إلى التفكير في تلك الموضوعات، وسوف نبدأ بطرح سؤال عن كيفية تأثير مُنطَلَقات مختلفة في طريقة فهمِنا واستيعابنا للهندوسية. على سبيل المثال، ما مدى اختلاف دوافع واستنتاجات أتباع الهندوسية وعلمائها عن دوافع واستنتاجات الباحثين؟ في الفصول التالية، سوف نتعرَّف على الأهمية التي يُولِيها الهندوس للتقاليد التي تتضمَّنها نصوصهم الدينية، ولوَحْيِها المُبكِّر لهم، وعمليات التوارُث اللاحقة لها من جيل إلى جيل على أيدي الكَهَنة والمُعلِّمين الرُّوحانيِّين ورُواة القصص.
أحد الأسئلة المهمة التي فكَّر فيها الهندوس وتناقَلوها عبْرَ قرون عديدة هو «مَن أكون؟» أو بعبارة أخرى: «ما الذات؟» بَحَث الفلاسفة في طبيعة الذات وعلاقتها بالإله والعالَم، وهل تبقَى بعدَ الممات أم لا؟ وكيف تؤثِّر أفعالُنا فيها؟ ولا تزال هذه القضايا مطروحة اليوم. في الفصل الثالث من هذا الكتاب، سوف نتناول كيفية مناقشة تلك الأسئلة في العصور الأولى، وسوف نتطرَّق أيضًا إلى أهميتها في الوقت الحالي.
في الفصلين التاليين، سوف نتعرَّف على مجموعة مختلفة من الآلهة الهندوس، سواء الذكور منها والإناث، والقصص المرويَّة عنها، والطريقة التي تُصوَّر بها في المنحوتات والصور، وأشكال العبادات التي يُتقرَّب بها إليها. سنتحدَّث عن راما وسيتا ودورجا وجانيشا وفيشنو وشيفا وكريشنا، وسنتطرَّق أيضًا إلى كيفية فهْم الهندوس لمَا هو إلهي؛ هل يَعبُدون عدَّة آلهة في آنٍ واحد، أم إن كل هذه الآلهة هي صور مختلفة لذات إلهية واحدة؟ هل مِن الوارد أن يكون هناك قدْر من الحقيقة في هاتين الفكرتين؟


بيانات الكتاب

الأسم : الهندوسية
المؤلف : كيم نوت
المترجم : أميرة علي عبد الصادق
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 141 صفحة
الحجم : 22 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م



في خبراتنا اليومية، من السهل أن نحدِّد أيُّ الكائنات الحية حيوانات وأيها غير ذلك. فعند سيرنا في مدينة ما، قد نُصادف قططًا وكلابًا وطيورًا وقواقع وفراشات، وندرك أنها جميعًا حيوانات. علينا أن نضع البشر أيضًا في هذه القائمة. على النقيض، ليس لدينا شكٌّ في أن الأشجار والحشائش والزهور والفطريات التي نصادفها ليستْ حيوانات رغم أنها أيضًا كائنات حية. إن مشكلة تحديد «حيوان» أو التعرف عليه تنشأ عندما نتطرق إلى بعض الكائنات الحية غير المعتادة، التي يكون الكثير منها مجهريًّا؛ لذا، من المفيد البحث عن معايير دقيقة للإجابة عن السؤال: «ما هو الحيوان؟»
إحدى الصفات التي تشترك فيها كل الحيوانات أنها «عديدة خلايا»؛ وذلك يَعنِي أن أجسامها تتكون من
العديد من الخلايا المتخصصة. ووفقًا لهذا المعيار، فإن الكائنات الوحيدة الخلية مثل الأميبا المعروفة لا تُعتَبَر حيوانات، وذلك على عكس الآراء التي كانت سائدة منذ قرن مضى. الواقع أن كثيرًا من البيولوجيين يحرصون على تجنب مصطلح protozoa بمعنى «الحيوانات الأولية» في حالة كائنات مثل الأميبا؛ نظرًا لأنه من واقع التعريف، لا يمكن لكائن ما أن يكون proto (أي «أوليًّا»، وتعني الكلمة أنه يمتلك خلية واحدة)، وzoa (وتعني حيوانًا) في الوقت نفسه.
إن تكوُّن الجسم من العديد من الخلايا معيار ضروري، ولكنه ليس كافيًا في حدِّ ذاته؛ إذ توجد الخاصية نفسها أيضًا في النباتات والفطريات، وفي بعض كائنات أخرى مثل العفن الغروي، وليس أيٌّ منها حيوانًا. ثمة خاصية هامة ثانية للحيوانات، وهي أنها تحصل على الطاقة اللازمة للحياة عن طريق أكل كائنات أخرى أو أجزاء منها، إما ميتة وإما حيَّة. وهذا على عكس النباتات الخضراء التي تستغلُّ طاقة الشمس عن طريق التفاعلات الكيميائية لعملية البناء الضوئي التي تحدث داخل البلاستيدات الخضراء. ثمة نباتات تُضيف إلى البناء الضوئي عملية التغذية (مثل نبات خنَّاق الذباب)، وحيوانات تأوي داخلها طحالب خضراء حية (مثل المرجان والهيدرا الخضراء)، ولكن هذه الحالات لا تَطمِس الفرق الأساسي على نحو كبير.
ثمة خاصية يُنوَّه عنها كثيرًا، وهي قدرة الحيوانات على الحركة وعلى استشعار بيئتها. ينطبق هذا المعيار تمامًا على الحيوانات، ولكنْ علينا أن نتذكر أن كثيرًا من النباتات لها أجزاء يمكنها التحرك، في حين أن العفن الغروي الخلوي (وهو ليس حيوانًا) يمكنه تكوين تركيب يشبه البزاق بطيء الحركة.


إن تكوين خلايا حيوانات منوية وبويضات بأحجام مختلفة إلى حدٍّ كبير يُعتَبَر خاصية أخرى تميز الحيوانات، وهي خاصية ذات دلالات شاملة بالنسبة إلى تطور سلوك الحيوان، لكنها ليست من الخصائص التي يمكن ملاحظتها بسهولة. ولعل أكثر الصفات التركيبية ثباتًا نجدها عند إجراء فحص دقيق لخلايا حيوانات يافعة. فعلى الرغم من أن للحيوانات أنواعًا عديدة مختلفة من الخلايا، فثمة نوع واحد من الخلايا أثَّر على التكوين البيولوجي للحيوانات وعلى تطور المملكة الحيوانية، والخلية المعنيَّة هنا هي الخلية الطلائية. هذه الخلايا تتخذ شكل القرميد أو العمود؛ حيث تفتقد الجدار الخلوي الصلب الموجود في النباتات. تترتب الخلايا الطلائية في طبقات مرنة مع وجود بروتينات متخصصة تعمل على تماسك الخلايا المتجاورة، وبروتينات أخرى تسدُّ الفُرَج الواقعة بين الخلايا لتكوين طبقة غير منفذة للماء. وتوجد طبقات الخلايا أيضًا في النباتات، لكن تركيبها يختلف إلى حد كبير؛ حيث تكون أقل مرونة وأكثر نفاذية.
إن طبقات الخلايا الطلائية في الحيوانات جديرة بالملاحظة لأسباب وظيفية وتركيبية. يمكن للطبقات الطلائية التحكم في التراكيب الكيميائية للسوائل على كلا جانبَيِ الطبقة الطلائية؛ مما يسمح للحيوانات بتكوين أماكن مملوءة بالسوائل لأغراض متنوعة؛ مثل دعم الجسم أو تركيز الفضلات الناتجة. كانت الأماكن المملوءة بالسوائل من ضمن أوائل التراكيب الهيكلية في الحيوانات، كما كانت عاملًا سمح بزيادة الحجم خلال عملية التطور إلى جانب التحرك على نحو فعَّال من حيث الطاقة.



بيانات الكتاب
الأسم :  المملكة الحيوانية
المؤلف : بيتر هولاند
المترجم : منير علي الجنزوري
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 143 صفحة
الحجم : 30 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م




الفلسفة هي حُب الحكمة؛ فإذا كنت تعتقد أنك تحب الحكمة، فإن الفلسفة هي المجال الذي يُفترض أن تدرسه. ولكن ما هي الحكمة التي تُعلِّمُنا إياها الفلسفة؟ بالنسبة إلى سقراط، وتقريبًا كل الفلاسفة القدماء الذين جاءوا من بعده، الحكمة التي تعلمنا إياها الفلسفة تتعلق بما قد يعني عيش حياة بشرية طيبة. وكان بديهيًّا في معظم الأفكار الفلسفية القديمة أن الحياة البشرية الطيبة تكون أيضًا حياة سعيدة. وفي إطار هذا التصوُّر — الذي يوجد تعبيرٌ واضحٌ عنه لدى أرسطو، ولكنه يكون مفترضًا من قِبل
المدارس الهلينستية اللاحقة مثل المدرسة الرواقية — فإن الفلسفة تسمح بتحقيق أعلى درجة من السعادة، وهي حياة التأمل الزاهد؛ ومن ثَمَّ فإن الفلسفة هي الحياة التأملية، الحياة التي توضع قيد الاختبار والفحص، ويصير الافتراض أن الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تُعاش. فينبغي أن تشكِّل الفلسفة البشر، لا أن تعلِّمهم وتوجِّههم فحسب.
ولكن يجب ألا ننسى أنه على الرغم من أن الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش، فإن الحياة التي لا تعاش لا تستحق التأمل، والفلسفة عند القدماء لم تنفصل عن التقلُّبات الفعلية التي تحدث في الحياة الاجتماعية اليومية. بل إن الفلسفة باعتبارها ممارسة تأملية لفحصِ ما يُعتقد أنه حقيقة باسم الحقيقة هي شيء كان يحدث فيما سماه الإغريق «الدولة»؛ أي المجال العام للحياة السياسية. فكانت الفلسفة نشاطًا «عمليًّا» بارزًا، يختلف على نحو ملحوظ عن الشكل الاستقصائي النظري على نحو كبير الذي أصبحت عليه الفلسفة بدايةً من القرن السابع عشر.في الجنوب، كان خاليًا من تلك الأشياء. لكن المدن، وبخاصة المدن الكبيرة، جذبت انتباهًا أكبر.



في التصور القديم، الحكمة التي تعلِّمنا الفلسفةُ حُبَّها هي السعي لتحقيق حياة طيبة، حياة تفكير وتأمل، ستكون بحكم تعريفها حياةً سعيدة. والآن، وربما على نحو غريب، هذا هو النموذج الذي يعتقد معظم الأشخاص خارج مجال الفلسفة — أي خارج مجال الدراسة الأكاديمية للفلسفة — أن معظم الأشخاص داخل مجال الفلسفة يخضعون له، وهذا هو السبب في أنهم يفترضون على نحو طبيعي تمامًا أن المسألة الرئيسية في الفلسفة يجب أن تكون معنى الحياة. وبوضع هذه الفكرة في الاعتبار، تخيل المشهد التالي: تلتقي فيلسوفة أكاديمية شخصًا غريبًا في حفلة ويسألها: «ما عملك؟» تجيب بأنها فيلسوفة، ويتجرأ الغريب لِلَحظة، ولافتقاده لأي شيء يقوله غير ذلك يسأل: «ما معنى الحياة إذن؟» عند هذه المرحلة، يحدث بعض الضحك العصبي مع محاولةٍ قلقةٍ من جانب الفيلسوفة إما لتغيير الموضوع بأسرع وقت ممكن، وإما للشرح بابتسامة خَجِلة أن الدراسة الأكاديمية للفلسفة لا تتعلق في الحقيقة بمثل هذه الأمور. والآن، وبقدرِ ما أجد هذا الموقف مُحرجًا اجتماعيًّا، أعتقد أن الشخص الغريب لديه ما يبرر افتراضه تمامًا. بعبارة أخرى، إذا لم تعالج الفلسفةُ مسألةَ معنى الحياة — ليس بالضرورة أن تتوصل لكُنْهِهَا، ولكن على الأقل تدرسها — فإنه يمكن القول إن الفلاسفة لا يقومون بعملهم على نحو صحيح.
في رأيي، المشكلة هنا لا تتعلق بالأشخاص خارج مجال الفلسفة أكثر من تعلقها بالأشخاص داخله؛ فلاسفتنا الأكاديميين. فبالنسبة إلى معظمنا، فكرة أن الفلسفة ربما تكون متعلقة بمسألة معنى الحياة أو تحقيق حياة بشرية طيبة وسعيدة تُعد إلى حدٍّ ما مزحة؛ مزحة سخيفة بالتأكيد. فمثل هذه المسائل يدرسها مجال ما يسمى تجاوزًا «علم النفس الشعبي». عمومًا، الفلسفة الأكاديمية سلمت عن طيب خاطرٍ هذا المجال إلى هذا المد الكبير المتواصل الزيادة من الكتب التي تدور حول «العقل والجسد والروح»؛ تلك الرفوف من كتب العصر الجديد الزاهية الألوان التي تقبع على نحو محرج بالقرب من أقسام كتب الفلسفة المتواصلة التقلص في المكتبات الموجودة في الشوارع الرئيسية. لقد تخلت الفلسفة الأكاديمية إلى حدٍّ كبيرٍ عن هذه المعارك واختارت التقاعد المبكر.

بيانات الكتاب
الأسم :الفلسفة القارية
المؤلف :  سايمون كريتشلي
المترجم : أحمد شكل
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 143 صفحة
الحجم : 30 ميجابايت





يشير مصطلح «الحركة التقدُّمية» — في تاريخ المجتمع الأمريكي والسياسة الأمريكية — إلى حركةٍ إصلاحيةٍ متعددة الجوانب ظهرت في السنوات الأخيرة للقرن التاسع عشر، وازدهرت بحلول القرن العشرين وحتى عام ١٩٢٠، ثم تلاشت في مطلع العشرينيات من القرن العشرين. على مستوى السياسة الوطنية، حقَّقت هذه الحركة أعظم إنجازاتها فيما بين عامَيْ ١٩١٠ و١٩١٧. وعلى مستوى السياسة
المحلية والخاصة بالولايات وجهود الإصلاح الخاصة — مثل الكنائس، ومراكز التكافل الاجتماعي، وحملات مكافحة الأمراض — بدأتِ التغيُّرات التقدمية في الظهور في تسعينيات القرن التاسع عشر، واستمرت حتى عشرينيات القرن العشرين. لعب عدد كبير من الناشطات — على الرغم من عدم حصول المرأة على حق الانتخاب — دورًا كبيرًا في هذه الجهود الرَّامية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وعلى مستوى السياسة الوطنية، برز الزعماء «الأربعة الكبار»: ويليام جيننجز برايان، وثيودور روزفلت، وروبرت إم لافوليت، ووودرو ويلسون. كما قاد العمدتان توم جونسون وسام جونز (صاحب القاعدة الذهبية) تغييراتٍ في مدنهما بولاية أوهايو، وهكذا الحال بالنسبة لهيرام جونسون حاكم كاليفورنيا وجيمس فاردامان حاكم ميسيسيبي. وتزعم لينكولن ستيفنز، وإيدا تاربيل، وباقي المناضلين الإصلاحيِّين الكاشفين للفساد (المعروفين ﺑ «المُنظِّفين») ما سيُطلَق عليه فيما بعدُ الصحافةُ الاستقصائية. وضمَّ التربويُّون التقدميون رؤساء جامعات وفلاسفة وعلماء اجتماع. وفي مجال العمل الخيري، دعم جوليوس روزنفالد معهد تاسكيجي الذي أسَّسه بوكر تي واشنطن، بينما ضخَّت مؤسسة روكفلر الملايين في مجالَيِ التعليم والصحة في ولايات الجنوب. كذلك قاد المعمدانيُّ والتر راوشنبوش، والأسقفيُّ دبليو دي بي بليس، والكاثوليكيُّ جون إيه راين كنائسَهُم نحو العدالة الاجتماعية، وبحلول عام ١٩١٠، أيَّدت جميع الطوائف البروتستانتية ما أُطلِق عليه حركة الإنجيل الاجتماعي. وساهمت فكرةٌ مبتكرةٌ هامةٌ ميَّزت الحقبة التقدمية — وهي مراكز التكافل الاجتماعي — في محاربة الفقر والجهل والمرض والظلم في العديد من المدن، وتَزَعَّم هذه الحركة على نحو بارز جين آدمز وإيلين جيتس ستار في شيكاجو، وليليان فالد وفلورنس كيلي في نيويورك، وماري ووركمان في لوس أنجلوس.


تحتاج الحركات الإصلاحية الناجحة إلى مؤيدين بقدْر احتياجها إلى قادة، وقد حَظِيَتِ الحركة التقدمية بملايين المؤيدين في أنحاء أمريكا، الذين انتخبوا المشرِّعين ممَّن وضعوا تشريعات تقدمية في قوانين الولايات، بدءًا من ماساتشوستس إلى كانساس وكاليفورنيا. وفي حين ضغط بعض التقدميين من أجل إدخال إصلاح واحد أو اثنين، نادَى آخرون بإصلاحات واسعة النطاق. وبحلول الوقت الذي وَهَنَتْ فيه الحركة، كان قد تحقق الكثير من تلك الأهداف، لا سيما تلك التي هدفت إلى تخفيف بعضٍ من مظاهر الظلم — أو مظاهر الجَور كما كان يقول التقدميون — والمشكلات التي تفاقمت وتفشَّت جرَّاء الاقتصاد الرأسمالي غير المنظَّم الذي ظَهَر بعد انتهاء الحرب الأهلية عام ١٨٦٥.
عكستِ الحركة التقدمية إجماعًا متزايدًا — وإن كان مؤقتًا — بين الأمريكيين على أن التغيُّرات الكبرى التي حدثت في أواخر القرن التاسع عشر أسفرتْ عن أوضاعٍ غير متوازنة غير مرغوب فيها وغير متَّفقة مع المبادئ الأمريكية في مجتمعهم. تمثَّلت دلائل هذه الأوضاع في ظهور طبقة جديدة من الأثرياء المُولَعين بالتباهِي، الذين تُقدَّر ثرواتهم بالملايين، والشركات الاحتكارية الخارجة عن السيطرة، والصراع (العنيف في أغلب الأحوال) بين العمال والرأسماليين، وردود الأفعال الفاترة من قِبَل الحكومات. زاد التخوُّف التقليدي من المدن، وذلك مع زيادة عدد المُدُن المتوسطة الحجم وتوسُّع عدد من المدن الكبيرة الحجم، ولم ينتقل إليها فقط النازحون من الريف الأمريكي، بل أيضًا المهاجرون من أجزاء غير معتادة من أوروبا وآسيا. بدا أن المدن تُفرِز أمراضًا اجتماعية — الفقر والبِغَاء والمَرَض والسُّكْر واليأس — ولكنَّ هذا لا يعني أن الريف، لا سيما في الجنوب، كان خاليًا من تلك الأشياء. لكن المدن، وبخاصة المدن الكبيرة، جذبت انتباهًا أكبر.

بيانات الكتاب
الأسم : الحركة التقدمية في أمريكا
المؤلف :  والتر نوجنت
المترجم : مروة عبد الفتاح شحاتة
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 151 صفحة
الحجم : 16 ميجابايت








يدور هذا الكتاب حول الأفكار والأساليب التي تخللت الأعمال الفنية المجدِّدة في الفترة من عام ١٩٠٩ حتى عام ١٩٣٩. إنه لا يتحدث، في الأساس، عن «الحداثة»؛ أي الضغوط والمتاعب التي وقعت خلال هذه الفترة بفعل فقدان الإيمان بالدين، وتصاعد اعتمادنا على العلم والتكنولوجيا، وتوسع الأسواق، وتحويل كل شيء إلى سلعة بفعل الرأسمالية، ونمو الثقافة الجماهيرية وتأثيرها، واجتياح البيروقراطية للحياة الخاصة، وتغير المعتقدات بشأن العلاقات بين الجنسين. لقد كان لكل هذه التطورات تأثيرات خطيرة على الفنون، كما سنرى، ولكن فكرتي الأساسية هنا تتمثل في التحدي الذي يواجه فهمنا للأعمال الفنية الفردية.
يمكننا استخلاص فكرة أولية جيدة عن طبيعة الحداثة في العمل الفني من خلال النظر إلى بعض الصعوبات التي جالت بذهن إليوت؛ لذا سوف أتناول رواية ولوحة فنية وعملًا موسيقيًّا، وأتساءل إن كان بإمكانها أن تخبرنا عن طبيعة الفن في حقبتها (وتركز الأعمال الثلاثة جميعًا على جانب عظيم من الحداثة؛ ألا وهو الحياة في المدينة). سوف أحاول من خلال هذه الأعمال أن أوضح
كيف يمكن أن يحدث تفاعل بين الأساليب التجديدية والأفكار الحداثية. وفي غضون ذلك، يتعين علينا تقبل بعض المشكلات الصعبة المتعلقة بالتأويل؛ إذ إن جميعها تنحرف بطرق مثيرة عن المعايير والمبادئ الواقعية للقرن التاسع عشر، والتي لا نزال نعول عليها بوجه عام لفهم العالم، ولكن روايات مثل «ميدل مارش» و«آنا كارنينا» (على الرغم من تركيزها على التوترات التي جلبتها المطالبات الجديدة فيما يتعلق بوضع المرأة) تبدو الآن وكأنها تأتينا من إطار فكري مستقر نسبيًّا، وتُقدَّم لنا عن طريق راوٍ ودودٍ — بدرجة أو بأخرى — وواضحٍ وذي مصداقية على المستوى المعنوي، ويخلق لنا عالمًا يتوقع منا إدراكه، وينتمي للماضي. ولكن الفن الحداثي أقل مباشرة من ذلك بكثير؛ فبمقدوره أن يجعل العالم يبدو غير مألوف لنا؛ إذ يعاد ترتيبه من خلال تقاليد وأعراف الفن.
«يوليسيس»
تبدو الكلمات الافتتاحية لرواية جيمس جويس «يوليسيس»، للوهلة الأولى، وكأنها قادمة من العالم الواقعي، ولكن المظاهر خادعة، وتصبح أكثر خداعًا مع تعمقنا أكثر في الرواية، وتصبح انحرافاتها الأسلوبية أكثر وضوحًا، على الرغم من أنها مرتكزة في الأساس داخل تاريخ دقيق إلى حد كبير.
في جلال، طلع باك موليجان من رأس السلم حاملًا دورقًا مملوءًا برغوة الصابون عليه مرآة وشفرة حلاقة وُضعتا متصالبتين. كان هناك روب أصفر اللون، غير محزم، مرفوع بخفة من خلفه على نسيم الصباح المعتدل.

رفع الدورق إلى أعلى ورتَّل:
سآتي إلى مذبح الرب.
ثم توقَّف عن الغناء وأطل برأسه لأسفل نحو الدَّرَج الملتف المظلم وقال بصوت أجش:
اصعد يا كينتش. اصعد أيها اليسوعي المخيف!
يكمن الأسلوب الحداثي الأساسي هنا في صياغة جويس للإشارات الضمنية التي تقودنا لاستشعار حضور بنيات مفاهيمية أو شكلية. وهكذا، وكما يشير هيو كينر في دليله العبقري، في هذا الكتاب، الذي سيوازي أسلوبه السردي أسلوب «الأوديسا» لهوميروس، فإن الكلمات التسع الأولى تحاكي إيقاعات تفعيلة سداسية هوميروسية، والإناء الذي يحمله موليجان أيضًا، في عالم التلميح الضمني الموازي، يمثل كأسًا قربانية تستقر عليها أدوات حلاقته «متصالبة». والروب الأصفر يحاكي ثياب الكهنة — لأجل تلك الأيام التي لم يكن يُحدد فيها لون آخر — ذات اللونين الأبيض والذهبي. وعلاوة على ذلك، فإن كون الروب «غير محزم» (بمعنى أن حزام الروب غير مربوط، كما هو الحال بالنسبة للطقس الكهنوتي الخاص بإثبات العفة) يعني أن الكاهن عريان من الأمام، جاعلًا عورته مكشوفة يعبث بها الهواء الخفيف، وهو يعي ذلك أيضًا. وكلمة «يرتل» متعمدة؛ ففي أثناء استعداده للحلاقة يعزف أيضًا في «القداس الأسود» مع كاهنه العاري. إن الكلمات التي يتحدث بها، والتي تخص «أسقف القداس الكاثوليكي»، مشتقة من نسخة القديس جيروم اللاتينية من كلمات عبرية منسوبة إلى ناظم ترانيم في المنفى: «سوف أصعد إلى مذبح الربلذلك فهو اقتباس من اقتباس من اقتباس، وهو بوجه عام صرخة استغاثة يهودية وسط الاضطهاد.



بيانات الكتاب
الأسم : الحداثة
المؤلف : كريستوفر باتلر
المترجم : شيماء طه الريدي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 121 صفحة
الحجم : 31 ميجابايت





لقد كُتب الكثير عن عجائب الجدول الدوري، وأُورِدُ فيما يلي أمثلة قليلة فحسب:
إن الجدول الدوري هو بمنزلة حجر رشيد الطبيعة ويُعتبَر بالنسبة إلى غير الخبراء مجرد مربعات مرقمة عددها مائة أو أكثر، في كلٍّ منها حرف أو اثنان، تنتظم في نمط متناسق ولكنه فريد وغير متماثل. أما بالنسبة إلى الكيميائيين فإن الجدول الدوري يكشف عن الأسس المنظمة لعلم الكيمياء، وعلى المستوى الأساسي تدخل الكيمياء كلها في إطار الجدول الدوري.
هذا لا يعني بالطبع أن نعرف كل ما في الكيمياء بوضوح من خلال الجدول الدوري، فالحقيقة بعيدة كلَّ البعد عن هذا المعنى، ولكن بنية الجدول الدوري تعكس البنية الإلكترونية للعناصر، ومن ثَمَّ خواصها وسلوكياتها الكيميائية، ولعل من الأنسب أن نقول إن الكيمياء كلها تبدأ من الجدول الدوري.
رودي باوم،


ويكتب الفلكي هارلو شابلي قائلًا:
لعل الجدول الدوري هو من أكثر تصنيفات المعرفة التي توصَّلَ إليها الإنسان حتى الآن إحكامًا وقيمةً، وما يفعله الجدول الدوري للمادة هو ما يفعله جدولُ العصور الجيولوجية للزمن الكوني، وتاريخه هو قصةُ فتوحاتِ الإنسان الكبرى في عالمه الصغير.
كما يقول روبرت هيكس، المتخصِّص في تاريخ الكيمياء في تدوينة صوتية له على الإنترنت:
لعل الجدول الدوري للعناصر من أكثر الرموز شهرةً في العلوم، ولقد صار هذا الجدول نموذجنا الذي نستعين به في معرفة كيف تترتَّب الذرات والجزيئات لتكوين المادة كما نعرفها، وكيف ينتظم العالَمُ في أدق مستوياته. عبر التاريخ تغيَّر الجدول الدوري؛ إذ أُضيفت إليه العناصر المكتشَفة حديثًا، كما تبيَّن بطلان وجود عناصر أخرى؛ فإما تمَّ تعديلها وإما حُذِفت نهائيًّا، وبهذه الطريقة يعمل الجدول الدوري كمخزنٍ لتاريخ الكيمياء وقالبٍ للتطورات الحالية، وأساسٍ لمستقبل العلوم الكيميائية … وخريطةٍ للَّبِنَات الأساسية للعالَم.
وكمثال أخير أُورد الآن قول سي بي سنو، وهو أخصائيٌّ في الكيمياء الفيزيائية معروفٌ بكتاباته عمَّا يُسمَّى «الثقافتين»:
ما إن علمت بذلك الجدول حتى رأيت لأول وهلة مزيجًا من الحقائق المختلطة، يندرج في خط واحد ونظام واحد، وقد بَدَتْ أمام عيني جميعُ خلائط ووصفات الكيمياء غير العضوية وما كنتُ أجده فيها من «عشوائية» — حين كنتُ تلميذًا — قد توافقَتْ وانتظمَتْ في نظام واحد، وكأنني أرى أمامي دَغَلًا تختلط فيه الأشجار بلا نظام، وقد تحوَّل فجأةً إلى حديقة هولندية!
الشيء المهم في هذا الجدول الدوري ما فيه من بساطة ومألوفية، فضلًا عن مكانته الجوهرية بحقٍّ في المجال العلمي، وتتضح بساطته من الاستشهادات السابق ذكرها. يبدو أن الجدول الدوري يجسِّد المكونات الأساسية للمواد كلها، كما أنه مألوف لمعظم الناس؛ فجميع الناس تقريبًا الذين يعرفون شيئًا أوليًّا عن الكيمياء يمكنهم تذكُّر وجود الجدول الدوري، حتى لو نسوا كل الأشياء الأخرى التي تعلَّموها عن الكيمياء. والجدول الدوري مألوف ومعروف تقريبًا بنفس درجةِ معرفةِ الصيغة الكيميائية للماء، ولقد صار أيقونةً ثقافية حقيقية يستخدمها الفنَّانون والمعلنون، وبطبيعة الحال العلماء من جميع فروع العلم.
في الوقت نفسه يُعَدُّ الجدول الدوري أكثر من مجرد أداةٍ لتعليم الكيمياء وتعلُّمها، ويعكس النظامَ الطبيعي للأشياء في العالم، بل في الكون كله أيضًا على حدِّ علمنا. يتكوَّن الجدول الدوري من مجموعاتٍ من العناصر مرتَّبةٍ في أعمدة رأسية، فإذا كان أحد الكيميائيين أو حتى أحد طلبة الكيمياء يعرف خصائص عنصرٍ ما محدَّد في أي مجموعة، مثل الصوديوم، فستكون لديه فكرة جيدة عن خواص العناصر الواقعة في نفس المجموعة، مثل البوتاسيوم والروبيديوم والسيزيوم.
وعلى مستوًى أساسي أكثر، أدَّى النظام الكامن في الجدول الدوري إلى معرفة عميقة بتركيب الذرة، وإلى الفكرة القائلة بأن الإلكترونات تدور بالضرورة حول نواة الذرة في أغلفة خاصة ومدارات محدَّدة، وهذه الترتيبات للإلكترونات تعمل بدورها على إكساب الجدول الدوري معناه المنطقي؛ فهي تفسِّر بصورة عامة السببَ وراء كون عناصر الصوديوم والبوتاسيوم والروبيديوم وغيرها تندرج في نفس المجموعة في المقام الأول. لكن الأهم من هذا أن معرفة البنية الذرية التي توصَّلَ إليها العلماءُ في البداية، عند محاولتهم تعلُّم الجدول الدوري، قد تمَّ تطبيقها في مجالاتٍ علمية أخرى، وقد أسهمت هذه المعرفة في نشوء نظرية الكمِّ أولًا، ثم نشوء ذلك العلم القريب منها والأكثر نضجًا؛ وهو ميكانيكا الكم، الذي هو نوع من المعرفة لا يزال يُنظَر إليه باعتباره النظريةَ الأساسية للفيزياء التي يمكنها أن تفسِّر سلوكَ جميع المواد، بل جميع صور الإشعاع أيضًا، مثل الضوء المرئي والأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية.



بيانات الكتاب

الأسم : الجدول الدوري
المؤلف : إريك شيري
المترجم : محمد عبد الرحمن إسماعيل
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 153 صفحة
الحجم : 23 ميجابايت





MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget