مارتن لوثر لــ سكوت إتش هندريكس





بحلول الوقت الذي اختُطف فيه لوثر اختطافًا وديًّا بعد انعقاد مجلس فورمس كان — بسنوات عمره السبع والثلاثين — قد جاوز أواسط العمر، وقد أخذ — دون أن يعِيَ ذلك — يسلك مسارًا مهنيًّا جديدًا إلى جانب منصب الأستاذية الذي شغله، هذا إذا كان مسموحًا له أن يحتفظ به. ملأ لوثر وقته في العشرة شهور التي أمضاها في قلعة فارتبورج (من مايو ١٥٢١ إلى مارس ١٥٢٢) بالدراسة والكتابة والتأمل، مما أقنعه بأن يأخذ على عاتقه مهمة جديدة؛ فلم يَعُدْ راهبًا، وإنما خادمًا تقوده العناية الإلهية لإعادة صورة
أصدق للمسيحية إلى ألمانيا، عوضًا عن مسيحية العصور الوسطى التي بدت له مليئة بالفساد والخرافات. فكيف استطاع ابن مقاول المناجم القادم من بلدة صغيرة في ألمانيا أن يجد مثل هذه الثورية في نفسه؟
وصف لوثر والديه بأنهما من الفقراء، ووصف نفسه بأنه ابن فلاح، لكن هذه الكلمات توحي بانطباع خاطئ عن طفولته. كان والده هانز ابن أحد المزارعين في قرية موهرا الصغيرة، التي لا تبعد بمسافة كبيرة عن بلدة آيزيناخ مسقط رأس والدته مارجريت ليندمان، لكن أقارب مارجريت ليندمان كانوا من أعيان البلدة، ومع أن هانز والدَ لوثر تزوَّج من طبقة اجتماعية رفيعة، إلا أنه شقَّ طريقه في صناعة المناجم ليصبح صاحب مصهر؛ أيْ وكيلًا لشركات النحاس، وهو ما تطلَّب منه استثمار أمواله الخاصة في العمل. وُلِد مارتن لوثر وتوفي في مدينة آيسلبن، لكنه أمضى طفولته في بلدة مانزفيلد الأصغر حجمًا، والتي انتقل إليها والداه عقب مولده بوقت قصير. ازدهرت أعمال هانز وجعلته أحد مواطني البلدة البارزين، وتشير الاكتشافات الحديثة إلى أن أسرة لوثر كان لديها زادٌ كافٍ من الطعام، وعاشت حياة موسرة في منزل كبير، شُيِّد حول فناء ربما لعب فيه مارتن في طفولته بِكُرات زجاجية صغيرة عُثر عليها هناك تعود إلى القرن السادس عشر. نَمَت ثروة هانز والد مارتن وتقلَّصَت مع تذبذب سعر النحاس، لكن مارتن وإخوته — الذين ضمُّوا على الأقل أخًا يُدعَى ياكوب وثلاث أخَوات — لم يعرفوا قطُّ الفقرَ بمعناه الحقيقي، وأصبح ياكوب — الذي جمعت بينه وبين لوثر علاقة وثيقة — صاحب مصهر بدوره، وعاش في منزل الأسرة بعد أن توفي والده.
ربما كان هانز ابن فلاح، لكن مارتن نفسه — على حد أقصى ما بلغه علمنا — أقام في المدينة ولم يجرب قطُّ الحياة الريفية، ورغم أنه شكا فيما بعدُ من أنه تلقَّى تعليمًا سيئًا للغاية، عانَى فيه الأَمَرَّيْن، فإن هذا المستوى التعليمي لم يُعِدَّه للالتحاق بالجامعة وحسب، بل للعمل أيضًا كمدرس وكاتب ومترجم وواعظ. ارتاد لوثر حتى الرابعة عشرة من العمر مدرسة لاتينية في مانزفيلد، لُقِّن فيها قواعد اللغة، وتعلم مبادئ المنطق والخطابة. وفي عام ١٤٩٧ تقريبًا أُرسِل مع صديقه هانز راينيكي إلى مدينة ماجديبورج الكبيرة — مقر إقامة رئيس الأساقفة — حيث يُرجَّح أنهما التحقا بمدرسة كاتدرائية البلدة، وأقام لدى جمعية إخوة الحياة المشتركة، وهي جمعية غير رهبانية، يشبه مقرها الدير، آوت الطلاب ودرَّست لهم في بعض الأحيان. واجهت مدينة ماجديبورج لوثر الشاب القادم من بلدة صغيرة ببيئة حضرية ودينية متشددة، لكننا لا نعرف الكثير عن أثرها فيه، فبعدها بعام أُرسل لوثر إلى مدينة آيزيناخ للالتحاق بمدرسة قريبة من أقارب والدته، وأقام هناك مع هاينز شالبي، وهو أحد مواطني البلدة البارزين وراعٍ لديرها الفرنسيسكاني، وارتاد مع ابن شالبي؛ كاسبار مدرسةَ أبرشية سان جورج، حيث نشأت صداقة وثيقة بينه وبين جون براون، وهو قسٌّ مسنٌّ دعاه لوثر فيما بعدُ إلى قُداسه الأول. غير أن لوثر لم يدرِ بالطبع أنه سيختبئ بعد عشرين عامًا في قلعة فارتبورج المطلة على البلدة.
كانت الخطوة التالية للوثر الطالب النابغة هي الجامعة، فاختار عام ١٥٠١ مدينة إيرفورت، وهي مدينة تجارية تقع على بُعْد ٦٠ ميلًا جنوب مدينة مانزفيلد، والتي كانت مزدهرة في عام ١٣٩٢ بما يكفي لتأسيس جامعة خاصة بها. أقام لوثر لعشر سنوات من الأحدَ عشَرَ عامًا التالية من حياته في إيرفورت، وأمضى هناك أربعة أعوام بالجامعة وستة أعوام بالدير، وقُيِّد شأنه شأن الطلاب المقبلين على الدراسة الجامعية في كلية الفنون الحرة؛ حيث اجتاز اختبار البكالوريا عام ١٥٠٢، لكنه استغرق وقتًا أطول للتأهُّل للتدريس، وتعيَّن عليه دراسة أعمال أرسطو دراسةً مكثَّفة، وأنهى الدراسة محتلًّا الترتيب الثاني على صفٍّ من سبعة عشر طالبًا في أوائل عام ١٥٠٥، وتسلَّم أوسمة المعلمين بالجامعة، وهي بريتة (قلنسوة مربعة الشكل) وخاتم إصبع، وهو ما أهَّله لإلقاء المحاضرات وعقد المناقشات، فضلًا على أنه صار مؤهَّلًا للدراسة في الكليات المهنية، ككليات القانون والطب وعلوم الدين، فعَكَفَ مباشَرةً على خوض المرحلة الأخيرة من تعليمه سيرًا على خطة أبيه، الذي ارتأى أن دراسة القانون هي أفضل الطرق للوصول إلى وظيفة مرموقة آمِنة، لكنه واصل الدراسة لأقلَّ من شهرين، وبعد العودة إلى دراسته من زيارةٍ إلى بلدته في يوليو عام ١٥٠٥، أقلع فجأةً عن دراسة القانون وجمع أصدقاءه — الذين ذُهِلوا من جرَّاء ذلك — لحفل وداع بهيج، والتحق بِدَير أوغسطينيان المجاور.
يبدو أن التقوى كانت دافعًا حاسمًا قاد لوثر إلى هذه النقلة المفاجئة؛ فعندما شارف على الوصول إلى مدينة إيرفورت عند عودته، أفزعته عاصفة عاتية إلى حد أنه أقسم على أن يصبح راهبًا إنْ نجا سالمًا. ولكن لكي يقطع على نفسه هذا العهد الذي قد يغيِّر حياته كلها — حتى في مواجهة الموت — لا بد أن لوثر كان له مآخِذ على الاشتغال بالقانون، وأنه درس احتمال أن يَهَبَ حياته للدِّين بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ أن يهبها للدير. كما أن الدين كان يحيط به في كل مكان عاش فيه وتعلَّم فيه، ولا سيما في مدينة ماجديبورج وآيزيناخ وفي مدينة إيرفورت التي امتلأت بالكنائس والأديرة ومجالس رجال الدين. وكان بمقدوره أن يدرُس علم اللاهوت دون أن يصبح راهبًا، لكنه لم يَسْعَ إلى تغيير مسار دراسته، بل إلى حياة مختلفة

بيانات الكتاب


الأسم : مارتن لوثر
المؤلف : سكوت إتش هندريكس
المترجم : كوثر محمود محمد
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 164 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget