الثورة الثقافية الصينية لــ ريتشارد كيرت كراوس




زلزلت ثورة الصين الثقافية البروليتارية العظمى سياسات الصين والعالم فيما بين عامي ١٩٦٩ و١٩٧٦؛ إذ سيطرت على جوانب الحياة الصينية كلها؛ فتشتتت أُسر، وسُرِّح موظفون، وتعطَّل التعليم، وانطلقت مبادرات سياسية مدهشة وسط مشهد من الفوضى، والبدايات الجديدة، وتصفية الحسابات القديمة.

ولكن تظل الحركة محل خلاف لتطرُّفها، ومداها الطموح، وتأثيرها في حياة ما يقرب من مليار شخص. ومن الصعب فهم هذه الفترة المعقدة، الغامضة غالبًا، التي لا تزال باعثة للألم. يحاول هذا الكتاب تقديم سرد مترابط. ولحسن الحظ، يمكننا الآن أن نعوِّل على كتابات حيوية تألَّفت من المعرفة العلمية والمذكرات والثقافة الشعبية، التي ظهرت داخل الصين وخارجها على حد سواء.

كانت الثورة الثقافية عنيفة، ولكنها أيضًا كانت مصدرًا للإلهام والتجربة الاجتماعية. فلماذا طرب الناس للثورة الثقافية، ثم أصابت خيبة الأمل عددًا كبيرًا منهم؟ يكمن التحدي في التعامل مع الثورة الثقافية على محمل الجد بدلًا من الاكتفاء برفضها لما تحمله من سلوكيات قاسية وسخافات.

لقد تبيَّن أن جزءًا كبيرًا مما نعتقد أننا نعرفه عن «الثورة الثقافية» مغلوط؛ فعلى سبيل المثال، كانت الغالبية العظمى من سمات الثورة الثقافية قد ترسخَّت بالفعل قبل حوالي عامين من بدايتها المعلنة عام ١٩٦٦، فقد كانت عضوية حركة الحرس الأحمر أكثر انتشارًا بكثير مما يتخيل الغربيون، ولكن عنفوان الحركة الشبابية كان أقصر؛ فلم يتجاوز العامين. كانت السياسة المتبعة مع الفنون مدمِّرة، ولكنها كانت أيضًا ومع ذلك جزءًا من خطة طويلة المدى لتحديث الثقافة الصينية. وقد هزَّت الثورة الثقافية الاقتصاد، ولكنها بالتأكيد لم تدمِّره تمامًا؛ لأنه كان ينمو بمعدل مناسب. وعلى الرغم من عُزلة الصين، فقد وضعت الثورة الثقافية حجرَ الأساس لتحول الصين إلى منبر تصنيعي لاقتصاد عالمي ليبرالي جديد. إن الثورة الثقافية أبعد ما تكون عن الدخول في طي النسيان في الصين اليوم، إلى جانب أن الحكومة لا تحظر مناقشتها.

إن قصة الثورة الثقافية قصة معقدة، وإني أحاول تقليص الألفاظ الاصطلاحية المتخصصة التي تظهر في الكتابات المتعلقة بالسياسة الصينية، ولكن لا بد من تحذير القراء من كلمة «كادر» الغريبة، التي تعني في هذا الكتاب «حزبًا أو مسئولًا حكوميًّا في الجمهورية الشعبية»؛ فالكلمة تشير إلى مسئولين فرديين، وليس إلى جماعة كما هو الحال في الغرب. وقد حاولتُ أن أقتصد في تقديم أسماء أماكن صينية غير مألوفة، على الرغم من أن هذا قد يجعل الثورة الثقافية تبدو أكثر تمركزًا في بكين عما هو مؤكد؛ فقد كانت حركة وطنية ضخمة لها الكثير من السمات المحلية الخاصة. كذلك تلعب أسماء الحملات السياسية دورًا أكبر مما تلعبه في الحياة العامة الغربية؛ فهي عند الصينيين تقدِّم — بدلًا من الغموض — وسيلةً للتذكرة وسياقًا للتقييمات السياسية والعاطفية لتيارات الثورة الثقافية المختلفة.
مقدمة: ثورة الصين غير المكتملة



جاءت ثورة الصين البروليتاريَّة الثقافية العظمى إلى الحياة في مايو عام ١٩٦٦، واستمرت حتى وفاة ماو تسي تونج عام ١٩٧٦. وقد كانت بروليتاريَّة في طموحها أكثر من واقعها، بالنظر إلى أن أربعة أخماس الصينيين كانوا من الفلاحين. كانت الثورة ثقافية من منظور أن أكثر أهدافها ثباتًا كان الفنون والمعتقدات العامة. ولم تكن هذه الثورة عظيمة في نفسها؛ فقد أحدثت الكثير من الصخب، ولكنها أعادت تنظيم الدولة فقط ولم تقوِّض بنيانها، ومثل معظم الثورات استمرت لأكثر مما هو مرغوب. ويستهوي المرء أن ينظر إلى هذا العقد الصاخب باعتباره الدَّفعة الأخيرة، وربما النهائية، في مسار الثورة الصينية التي استمرت طوال قرن من الزمان، لتتجه الصين بعدها للمهمة الخطيرة التي تمثَّلت في بناء أمة حديثة.

لا يولِي قادة الصين الحاليون — الذين غالبًا ما يكونون هم أنفسهم من أفراد الحرس الأحمر السابقين — اهتمامًا كبيرًا بدراسة الصلة بين «الصين الماوية» والدولة في الوقت الحالي؛ فهم يتجنَّبون المناقشات المخزية حول فترة شبابهم، ويتمسَّكون بإدراك غير مصرَّح به مفادُهُ نبذ الاتهامات المضادة القائمة ضدهم من تلك الفترة. ويجد الإعلام الغربي إغراءً في تعميق التفاوت بين الصين ذات الوجه الطيب (التي تملأ محالنا بالمنتجات والسلع وتحمل عنا ديوننا) والصين ذات الوجه السيئ (التي وضعت — فيما مضى — حدًّا للنفوذ الغربي في العالم). ولكن الروايات التي تدَّعي ببساطة أن ماو تسي تونج طاغية مجنون، وأن تاريخ الصين الحديث «الحقيقي» يبدأ فقط مع موته، إنما تغفل أبعادًا مهمة للتغيير الاجتماعي السريع والنافذ الذي حدث منذ نهاية الثورة الثقافية.

في المقابل، يستنبط هذا الكتاب أوجه الصلة بين الصين كدولة معزولة ومحاصَرة في ستينيات القرن العشرين، والصين اليوم كقوة عالمية سطع نجمها حديثًا. إن هذين الوجهين لا يقفان على طرفي نقيض، لدرجة أننا أحيانًا ما نرغب في أن يكونا كذلك. لقد أراد ماو — شأنه شأن غيره من القادة الصينيين في القرن العشرين — صينًا قوية وحديثة، وساهمت بعض سياسات الثورة الثقافية في بلوغ هذا الهدف، والبعض الآخر لم يكن مفيدًا إلى حد كبير في هذا الصدد، ولكنها مع ذلك أضافت للاتجاه المميز الذي اتبعته الصين المعاصرة.

وبدلًا من مهاجمة الثورة الثقافية باعتبارها مستنقعًا تاريخيًّا، يمكننا التركيز على صلاتها بعالمنا المعاصر، واضعين بذلك تلك الحركة الصينية القومية في سياق عالمي. لقد كانت الثورة الثقافية جزءًا من الحركة العالمية للشباب الراديكاليين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وكان المعارضون الغربيون يفتخرون بوجود صلات خيالية أو عاطفية بثوار الصين. وخلال الثورة الثقافية، عملت بكين وواشنطن على تصفية العداء الطويل بزيارة نيكسون في عام ١٩٧١، مما أدى إلى إعادة تشكيل سياسات آسيا الدولية، وغرس بذور عقود من النمو الاقتصادي المذهل في الصين. لقد قامت الثورة الثقافية وما تلاها من حركة تطهير ضد اليسار بسحق البيروقراطية في الصين بشكل حادٍّ للغاية، لدرجة أنه لم يكن هناك قدر كبير من التفنيد القوي للسياسات التي حولت الدولة إلى ملجأ ضخم للصناعة العالمية.


بيانات الكتاب

الأسم : الثورة الثقافية الصينية
المؤلف :  ريتشارد كيرت كراوس
المترجم : شيماء طه الريدي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 138 صفحة
الحجم : 9 ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget