هيرودوت لــ كوينتن سكينر





تركَتِ المحصلة المذهلة التي تمخضت عنها الحروب الإغريقية الفارسية انطباعًا عميقًا لدى مَن كانوا أحياء في ذلك الزمان. ومن المتصور أن هيرودوت تذكَّر أبويه وقد بلغهما نبأ انتصار الإغريق على خشایارشا في سلاميس سنة ٤٨٠. وكانت إحدى كبريات أميرات البحر في جيش خشایارشا، وهي
أرتميسيا، ملكةً على مدينة هاليكارناسوس — موطن هيرودوت — الواقعة على الساحل الأناضولي، حيث يوجد اليوم ميناء بودروم التركي الحديث، وقد قاتلَتْ ببسالة في تلك المعركة. وربما يرتبط افتتان هيرودوت بالسيدات القويات ارتباطًا وثيقًا بخبرته إبَّان طفولته بهذه المرأة الجسورة التي قادت سفنًا حربية قيادة فعلية، وربما كان مؤرخنا يبلغ من العمر خمس سنوات عندما حدثت المواجهة الأخيرة التي دارت رحاها في ربيع العام التالي في الأناضول نفسها. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، ظل انتصار الإغريق المذهل الذي حقَّقه «أعظم جيل» موضوعَ نقاشٍ مثيرًا في العالم الهيليني، وكان شباب الجنود ما زالوا في المتناول لإجراء الحوار معهم عندما بلغ هيرودوت رشده، وكانوا على الأرجح يجدون ما يُشبِع غرورَهم في سؤالهم عن تجاربهم في الحرب، وكانوا متلهفين للحديث، فغالبًا ما يعيش الرجال والنساء من جيل ما بعد الحرب هذه الحرب بشكل غير مباشِر من خلال أحاديث طاولة الطعام وغيرها من الأحاديث التي يرويها الآباء، والعمات والخالات، والأعمام والأخوال، والأجداد، ممَّن ينتمون إلى هذا العالم الأقدم من عالمهم. وكان هيرودوت نفسه — وبشكل شبه يقيني — صديقًا للكاتب المسرحي سوفوكليس، الذي اختير وهو في سن المراهقة لأداء واجب وطني، وهو قيادة أناشيد الكورال احتفالًا بانتصار الإغريق البحري في سلاميس. وفي عام ٤٧٢، أنتج أسخيلوس مسرحيته «الفرس» التي تدور حول ذلك الانتصار، وكان الرجل الذي بذل المال لتدريب كورَس المسرحية هو بركليس، الذي سيصبح أبرز رجل دولة أثيني في زمن هيرودوت. وفي عموم بلدان البحر المتوسط، ظلت الحرب حية على مدى أجيال كلحظة حاسمة في التاريخ. وفيما تقاتل التحالفان الأثيني والإسبرطي، في البداية في حرب غير معلَنة استمرت من ٤٦٠ إلى ٤٤٦، ثم في الحرب البيلوبونيزية الكبرى بين عامي ٤٣١ و٤٠٤، بقيت ذكريات الوحدة الإغريقية كتذكرة مؤلمة بأزمنة أحسن حالًا.



لا نعرف إلا تفاصيل قليلة عن حياة هيرودوت بعد طفولته في هاليكارناسوس. لقد تعرَّض على الأرجح للإبعاد في واحدة من موجات الحرب الأهلية التي اتَّسَمت بها المدن الإغريقية، وأمضى جزءًا كبيرًا من حياته مترحلًا في منفاه، وزار أثينا، ومات على الجانب المقابل من العالم الهيليني في مستعمرة ثوريوم الإغريقية في جنوب إيطاليا بعد سنة ٤٣٠ بحين من الدهر، على الرغم من قول بعضهم إن وفاته كانت على الحافة الشمالية في مدينة بلَّا المقدونية. وتذكر المصادر اللاحقة أن اسم أبيه ليكسيس، وأمه درايو أو رويو أو ربما شيء مختلف بالكلية، الأهم من ذلك اسم شخص آخَر من أقاربه (ربما عمه أو ابن عمه) هو الشاعر بانياسيس، الذي أشاد به بعض القرَّاء (بعد موته فقط للأسف) وقالوا إنه لا يفوقه مكانةً إلا هوميروس. كتب بانياسيس عن بدايات المدن الإغريقية في أيونيا — الاسم الذي كان يُعرَف به ساحل الأناضول الغربي — فجعل بذلك هيرودوت منتميًا إلى عائلة أدبية، على الرغم من أنه كان يكتب شعرًا، ومن ثَمَّ فلم يشكِّل إلا سابقة جزئية للعمل البارز الذي اضطلع به هيرودوت.

كانت هاليكارناسوس التي عاش فيها هيرودوت تقع عند ملتقى طرق الشرق والغرب، ويقطنها خليط من السكان الإغريق والسكان الأصليين، وتضم مزيجًا من هاتين الثقافتين، وكان السكان المحليون كاريين، وقال هوميروس إن بعضهم شاركوا في حرب طروادة حلفاء لطروادة، وتشمل معلوماتنا الضئيلة عن أقارب هيرودوت أسماء إغريقية وأسماء كاريَّة على السواء. وقد عزا بعض القرَّاء، مثل كابوشنسكي، اتِّسَاع أفق هيرودوت إلى عرقه المختلط هذا، مُدَّعِين أن «أصحاب العرق المختلط» الذين يقضون شبابهم بين ثقافات مختلفة «كمزيج من سلالات مختلفة، تتحدد رؤيتهم الكونية بفعل مفاهيم من قبيل الحدود والمسافة والاختلاف والتنوع.» وقد شُكِّلت طريقة هيرودوت في النظر إلى الأشياء بلا شك، وأُثرِيَتْ بفعل الثقافة المختلطة التي تميَّزتْ بها مدينته الأصلية، وكذلك بفضل مخاطر العقلية الإمبريالية التي اكتسبها الأثينيون من بلاد فارس.

علاوةً على ذلك، كانت مدن أيونيا الإغريقية مرتعًا للفكر الجديد الذي اتسم بالجرأة في أغلب الأحوال. ففي ظل غياب مناهج علمية راسخة، كانت ما نعتبرها الآن فروعًا فكرية منفصلة (العلوم الطبيعية، الفلسفة، علم النفس، اللاهوت) مندمجة أكثر بكثير منها اليوم. وكان طاليس قد تكهَّنَ بأصل المادة، وانتهى إلى أن كل شيء كان في الأصل على هيئة ماء، لكن من جهة أخرى كان أنكسيمانس يرى أن كل شيء نشأ من الهواء، الذي يمكنه التحول إلى نار أو ريح أو سحاب أو — عند تكثيفه — إلى مادة صلبة، في حين قال أنكسيمندرس بأن المخلوقات الأولى نشأت من الطين، وأن البشر تطوروا من أنواع حيوانية أخرى، وكان أول إغريقي يرسم خريطة للعالم المعروف. وقدَّر زينوفان — المعمر الذي وُلِد هيرودوت في حياته — أن البشر خَلقوا الآلهة وليس العكس، حيث زعم — مستخِفًّا — أنه لو استطاعت الأنعام والخيل والأُسْد أن ترسم، لصوَّرَ كلٌّ منها صورَ آلهة شبيهة بجنسه. وقال هيراقليطس — الرجل الذي نربط بينه وبين ادِّعَاء أن المرء لا يمكنه الخوض في النهر نفسه مرتين أبدًا — بأن كل شيء في حالة تدفُّق. وكان هيرودوت وريثًا لهذا التراث الأيوني بما اشتمل عليه من فضول وشكوكية.

بيانات الكتاب

الأسم : هيرودوت
المؤلف :  جينيفر تي روبرتس
المترجم : خالد غريب علي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 123 صفحة
الحجم : 17 ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget