العبقرية لــ أندرو روبنسون



تعريف العبقرية

هوميروس، وليوناردو دا فينشي، وشكسبير، وموتسارت، وتولستوي، وجاليليو، ونيوتن، وداروين، وماري كوري، وأينشتاين. ما القاسم المشترَك بين هذه الشخصيات المشهورة على مستوى العالم في مجالَي الفنون والعلوم؟ بالإضافة إلى حقيقة أن عمر إنجازاتهم قرن أو يزيد، ربما سيردُّ معظمنا على هذا
السؤال بإجابة كالتالية: جميع هذه الشخصيات العشر أحدثَتْ بأعمالها تغييرًا دائمًا في طريقة رؤية الإنسانية للعالم، وتمتَّعَ كلٌّ منها بما نسميه: العبقرية. لكن لما كانت الضرورة تفرض علينا أن نكون أكثر دقة، نرى أنه من الصعب صعوبة ملحوظة أن نحدِّد مَن هو العبقري، لا سيما من بين أبناء عصرنا.

على الرغم من شهرة بابلو بيكاسو وتأثيره لا تزال مكانته كعبقري محل جدل، كما هي الحال بالنسبة لمكانة فيرجينيا وولف مثلًا في مجال الأدب. وفي العلم، على الرغم من أن ستيفن هوكينج كثيرًا ما يُعَدُّ عبقريًّا معاصرًا يضارع أينشتاين في نظر الجمهور العام، فهو لا يحظى بالقدر نفسه من القبول من جانب علماء الفيزياء الذين يفهمون عمله تمام الفهم؛ فهو لا يشكِّل لهم سوى واحدٍ من نجوم مجال علم الكونيَّات.

والعبقرية بطبيعة الحال فردية وفريدة، إلا أنها ذات طابع مؤثر، سواء بالنسبة لعامة الناس أو المتخصصين. فأفكار داروين لا يزال ينشد قراءتَها كلُّ عَالِم أحياء، ولا تزال مستمرة في توليد أفكار وتجارب جديدة في جميع أنحاء العالم. وكذلك هي نظريات أينشتاين بالنسبة لعلماء الفيزياء. ولا تزال مسرحيات شكسبير وألحان موتسارت وإيقاعاته تؤثِّر في أناس من لغات وثقافات بعيدة كل البعد عن إنجلترا وطن الأول، وعن النمسا وطن الثاني. قد يظهر عباقرة «معاصرون» ويختفون، لكن فكرة العبقرية لن تَبْرَحنا أبدًا. وكلمة عبقري هي الصفة التي نُطْلِقها على نوعية العمل الذي يتجاوز حدودَ الاتجاه السائد والشهرة والمكانة المرموقة؛ أي: ليس المرتبط بفترة زمنية بعينها. فالعبقرية تتجاوز بطريقة أو بأخرى وقتَ ظهورها ومكانَه.



يعود أصل كلمة عبقري بالإنجليزية «جينياس» genius للعصور الرومانية القديمة؛ ففي اللغة اللاتينية تُستخدَم كلمة جينياس لوصف الروح الحارسة (الحامية) لشخص أو مكان أو منشأة، وهلم جرًّا، الأمر الذي ربط هؤلاء الأشخاص بقُوى القَدَر وإيقاعات الزمن. ومثلما هي الحال بالنسبة لكلمة «دايمون» daimon اليونانية — التي تعني أيضًا الروح الحارسة — كان يُعتقَد أن جينياس أو الروح الحارسة تُلازِم المرءَ من المهد إلى اللحد، كما عبَّرَ عن ذلك الشاعرُ هوراس في أبيات له تَعُود للقرن الأول قبل الميلاد، قائلًا: «هي الرَّفِيقُ الذي يوجِّه نَجْمَ مَوْلِدِنا، رب الطبيعة البشرية، وهي فانيةٌ مع كل فَرْد، وتختلف في السِّيماء، أبيض وأسود.» ويرى هوراس أن تلك الروح وحدها هي مَن تحدد لماذا قد يختلف شقيقان كل الاختلاف من حيث الشخصية وأسلوب الحياة. لكن كلمة جينياس لدى الرومان لم تكن بالضرورة مرتبطة بقدرةٍ أو بإبداعٍ استثنائيٍّ.
لم تكتسِب كلمةُ العبقرية معناها الرئيسيَّ المُعاصِرَ والمختلِفَ اختلافًا واضحًا عن أصلها إلا مع بزوغ عصر التنوير؛ إذ باتَتْ تُشِير إلى: الفرد الذي تبدو عليه قدرات استثنائية عقلية أو إبداعية، سواء كانت هذه القدرات فطرية أو مكتسبة (أو كلا الأمرين معًا). فالشاعر هوميروس رغم ما يحظى به طوال ألفيَّتَيْن من إجلال وتوقير بصفته شاعرًا فذًّا مُلْهَمًا لم يُطلَق عليه أنه «عبقري» إلا بحلول القرن الثامن عشر. لكن هذا الاستخدام الحديث مستمَدٌّ من الكلمة اللاتينية «إينجينيوم» ingenium (ليس من كلمة «جينياس») التي تعني «قدرة طبيعية» أو «مَقْدِرة فطرية» أو «موهبة»، وباتت الكلمة تُستخدَم على نطاق واسع في عام ١٧١١، حينما نشر جوزيف أديسون مقالًا عن «العبقرية» في مجلته حديثة التأسيس «ذا سبيكتاتور». كتب أديسون يقول: «ما من شميلة يتكرر أن يُوصَف بها الكُتَّاب جميعًا أكثر من شميلة العبقرية.» وأضاف:
سَمِعْتُ عن كثير من ناظِمِي القصائد المتواضعين الذين يُوصَف الواحد منهم بأنه عبقري بارع. وما من مؤلِّف ملحمي فاشل على وجه البسيطة إلا ويعتقد معجَبوه أنه شديد العبقرية، أما الهواة في مجال تأليف المسرحيات التراجيدية فنادرًا ما لا يشيد شخص أو آخَر بأي منهم باعتباره عبقريًّا مذهلًا.

في أواسط القرن الثامن عشر اقترح صامويل جونسون في مجلته الدورية «ذا رامبلر» تعريفًا عصريًّا على نحو جليٍّ لكونه يركِّز على العبقرية باعتبارها هدفًا يمكن بلوغه من خلال الاجتهاد والتفاني. يقول جونسون:
… [بما] أن العبقرية، أيًّا ما كانت، كالنار الكامنة في الحجر الصوان لا تنشأ إلا بقدح الحجر بما يناسبه من مواد، فإن من واجب كل إنسان أن يختبر قدراته كي يعلم ما إذا كانت لا تتوافق مع تطلعاته، وبما أن أولئك الذين يُعجَب هو ببراعتهم لم يكتشفوا قُوَّتَهم تلك إلا من خلال الاجتهاد، فإن كل ما يحتاجه هو أن يشرع هو الآخَر في الاجتهاد الذي سبقه إليه هؤلاء وبالحماسة نفسها، وحينئذٍ يكون من المنطقي أن يأمل في أن يحقِّق نجاحًا مماثلًا.


بيانات الكتاب

الأسم : العبقرية
المؤلف :  أندرو روبنسون
المترجم : رحاب صلاح الدين
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 133 صفحة
الحجم : 12 ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget