يونيو 2018



) أين نضع الحدود؟

إذا كنت لا تزال تؤمن — بعد قراءة ما سبق — بأن حرية الكلام لا ينبغي أن تخضع أبدًا لقيود تحت أي ظروف، فتأمل مثالًا تخيليًّا طرحه الفيلسوف توماس سكانلون: ماذا تقول في مخترع كاره للبشر اكتشف طريقة سهلة لإعداد غاز أعصاب ذي فعالية عالية من
منتجات محلية يسهل العثور عليها؟ بالتأكيد في هذا الموقف سيكون من الصائب منعه من إعطاء الوصفة لأحد أو نشرها بأي طريقة أخرى، قليل جدًّا من الناس هم من قد يود الدفاع عن حقه في حرية الكلام فيما يتعلق باختراعه الخطير؛ اختراع ليس له أي فائدة واضحة للبشرية وله العديد من الأخطار المحتملة، حتى إن كان المخترع لا يقصد استخدام اختراعه بما يضر الآخرين، فسيظل من الصواب منع هذه المعلومات الخطيرة من الانتشار على نطاق واسع، فإذا كنت تؤمن بأن حرية الكلام ينبغي الدفاع عنها في كل الأحوال، فعليك إذن أن تؤمن بضرورة الدفاع عنها حتى في حالة كهذه.

إذا بدا لك مثال مخترع غاز الأعصاب خياليًّا، فإليك مثال حقيقي لكتاب بعنوان «القاتل المأجور: دليل فني للقتلة المأجورين المستقلين.» يقدم هذا الكتاب — الذي يقال إنه أدب خيالي — إرشادات مفصلة لكيفية القتل بحذر والتخلص من الجثث، نُشر هذا الكتاب عام ١٩٨٣ في الولايات المتحدة، وزادت شهرة الكتاب عندما استأجر لورنس هورن قاتلًا مأجورًا لقتل ابنه وزوجته السابقة وممرضة ابنه من أجل الحصول على أموال التأمين، اتبع القاتل حرفيًّا التعليمات الواردة بالكتاب عن كيفية جعل المسدس صعب التعقب، واستخدام كاتم صوت منزلي الصنع، وإطلاق النار من مسافة قريبة، وما إلى ذلك. حُكم على القاتل بالإعدام، وعلى هورن بالسجن مدى الحياة، ورُفعت دعوى قضائية ضد ناشري الكتاب، وأعد الناشرون دفاعًا معتمدًا على التعديل الأول، انتهت القضية أخيرًا بتسوية مالية من جانب الناشرين، واعتبر البعض أن محاولة مقاضاة ناشري هذا الكتاب هجوم على حرية الكلام، في حين اعتبرها آخرون رد فعل أخلاقي مناسبًا لمنع التداول الواسع لعمل أوحى بارتكاب جريمة قتل وقدم دليل تعليمات لها، وربما يتكرر الأمر مرة أخرى. اعتبر معظم من يرون أن الرقابة في هذه الحالة تمثل قيدًا غير مقبول على حرية الكلام — هذا الكتاب غير مسئول وخطيرًا، إلا أنهم كانوا قلقين من خطر تقييد حرية الكلام، لا سيما أن أغلب المعلومات الواردة بالكتاب كانت متاحة بالفعل على نطاق واسع في أفلام العصابات وكتب الجرائم الواقعية، إذا أمكن إثبات أن الكتاب يحرض مباشرةً على العنف، فعندها توجد أسباب واضحة لفرض الرقابة، أما إن لم يمكن ذلك، فإن هذا يبدو تعديًا على الحرية الفردية.

عندما تقول: «أؤيد حرية الكلام.» فإن العبارة تكون ناقصة المعنى نسبيًّا دون توضيح حدود هذه الحرية، ولا تعني هذه العبارة عند أغلب الناس: «أنا أؤيد حرية الكلام في كل الظروف على الإطلاق.» إلا أن تعيين هذه الحدود ليس بالأمر السهل، فهذا يعني تحديد الوقت الذي تحظى فيه قيمة مناقضة بالأولوية على هذه الحرية، في قضية سكينك، اعتبر الأمن القومي خلال فترة الحرب (بأثر رجعي) أعلى قيمة، أما في قضية كتاب القاتل المأجور، كان يوجد قلق حقيقي من أن نشر هذا الكتاب يحمل مجازفة كبيرة بوقوع عواقب وخيمة، وربما أوحى بالفعل بارتكاب جرائم قتل متعددة.

(٦) حجة المنحدر الزلق

مع ذلك ربما يجب الاعتراض على جميع القيود المفروضة على حرية الكلام تقريبًا، على أساس أن السماح للحكومة بتقييد مثل هذه الحرية الأساسية يعني التوجه نحو منحدر زلق ينتهي حتمًا بالوصول إلى الاستبدادية، ودون «وثيقة الحقوق» ربما تكون المملكة المتحدة أكثر عرضة لهذا مقارنة بالولايات المتحدة. الواقع أن عدم الثقة في الحكومات وقدرتها على الرقابة على أسس عقلانية تشكل حافزًا مهمًّا للدفاع عن مبدأ حرية الكلام، إلا أن وجود مبدأ مثل «التعديل الأول» له مشكلاته المصاحبة؛ فهو مثل أي مبدأ يتسع لمدى عريض من التفسيرات — تمامًا كما أوضح فقه قانون «التعديل الأول» — في ظل وجود نقاشات محتدمة حول تطبيق مبدأ حرية التعبير الذي تحميه هذه المادة الدستورية، وحول القيود المفروضة عليه.

تشتمل فوائد الحفاظ على حرية الكلام — وفقًا لحجة المنحدر الزلق — على الحماية من الانزلاق إلى نظام استبدادي أو على الأقل نظام شبيه به، يقترح هذا الأسلوب ضرورة حفاظنا على حرية الكلام بسبب التبعات الحميدة التي تنتج عن ذلك، غير أنه يسهل تفنيد الصور المبالغة في التبسيط لهذه الحجة، ربما تكون المنحدرات الزلقة زلقة نوعًا ما، وفي بعض الحالات يحتمل أن يتشبث أحد برأيه ويقول «هنا وكفى.» بعبارة أخرى، حقيقة اتخاذ حكومة ما قرارًا بإعطاء أهمية للأمن القومي تفوق أهمية حرية الكلام في بعض الحالات، لا تعني أن هذه الحكومة الديمقراطية ستتحول حتمًا إلى نظام استبدادي، فالمسألة هنا تجريبية وتدور حول مدى الانحدار في مثل هذه الظروف، فحقيقة أنه يمكننا الانتقال من دولة ديمقراطية مفتوحة إلى دولة استبدادية من خلال سلسلة من الأفعال الصغيرة، لا تعني بالضرورة أننا إذا اتخذنا خطوة واحدة بعيدًا عن الديمقراطية المفتوحة فسينتهي بنا الحال إلى الاستبدادية. ولصياغة الأمر بطريقة أخرى، واستكمالًا للصورة البلاغية، يمكننا القول إن هذه المنحدرات ربما تكون زلقة نوعًا ما أو حادة الانحدار أو قليلة الارتفاع، لا بد من وجود مزيد من الأدلة التجريبية لتأييد زعم الانحدار الحتمي نحو الاستبدادية، أما النقد الآخر فيتمثل في أننا بعيدون بالفعل إلى حد ما عن المجتمع الذي يكفل حرية الكلام تمامًا، ومع ذلك لا يبدو أننا نندفع في اتجاه الاستبدادية.

بالرغم من ذلك، لا تزال لحجة المنحدر الزلق ثقلها، ففي المملكة المتحدة، فُرض قانون جديد عام ٢٠٠٥ (قانون الجرائم الخطيرة المنظَّمة والشرطة) يحظر التظاهر العام على بعد مسافة كيلومتر من مبنى البرلمان، كانت مايا إيفانز من أوائل من تعرضوا للمقاضاة بموجب هذا القانون؛ حيث أدينت لإلقائها علنيًّا أسماء من قُتلوا في العراق منذ الغزو الأخير دون تصريح من الشرطة، كان يمكن لوثيقة الحقوق أن تجعل من الصعب بل حتى من المستحيل على الحكومة فرض مثل هذا التشريع، ربما يُشار منطقيًّا إلى أن مجرد تحديد منطقة إقصاء قدرها كيلومتر واحد — كما حدث — يمكن أن يتبعه بسهولة زيادة نطاقها لتصل إلى اثنين أو ثلاثة كيلومترات، أو ربما يؤدي إلى وضع قوانين مماثلة قرب أهداف محتملة للإرهاب، ففي هذه الحالة ربما لا يؤدي المنحدر الزلق بالضرورة إلى الاستبداد، لكنه قد ينزع حريات مهمة ممن يعيشون في المملكة المتحدة؛ حريات قد تعيق أو على الأقل تضعف التظاهر السياسي، في هذا النوع من الحجج تكمن القيمة الكبرى للدستور في وجود صعوبة كبيرة في تفعيل مثل هذه القوانين الإضافية وتوسيع نطاقها.



بيانات الكتاب


الأسم : حرية التعبير
المؤلف :  نايچل ووربيرتن
المترجم : زينب عاطف
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م




شاع ارتباط الوجودية بالمقاهي الباريسية في ليفت بانك و«عائلة» الفيلسوفَين: جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، التي اجتمعت هناك في الأعوام التي أعقبت مباشرة تحرير باريس في نهاية الحرب العالمية الثانية. يتصور المرء مفكرين غير تقليديين وطليعيين، لا تفارقهم السجائر، يستمعون إلى موسيقى الجاز وهم يناقشون في حرارة تبعات حريتهم السياسية والفنية المكتسبة حديثًا. يسودهم
مزاج الحماس والإبداع وتحليل الذات القلِق، والحرية … دائمًا الحرية.
على الرغم من أن هذا يعكس الصورة التي تُروِّج لها وسائل الإعلام اليوم ويجسد — بلا شك — روح العصر، فإنه يخفي الدلالة الفلسفية للفكر الوجودي، مصورًا إياه كظاهرة ثقافية مرتبطة بفترة تاريخية معينة. ربما يكون هذا هو الثمن الذي يدفعه أسلوب فكري يميل إلى النظر إلى الفلسفة نظرة مادية بدلًا من نظرة مجردة وخالدة. كانت رغبة الوجوديين في الارتباط بالعصر سببًا في التزامهم الاجتماعي والسياسي، لكنها ربطتهم أيضًا بمشكلات زمانهم، ودعت الأجيال اللاحقة إلى النظر إليهم كظاهرة عفى عليها الزمن.
هذا سوء تفسير للفكر الوجودي آمل أن أصححه في هذا الكتاب القصير. لو كانت الوجودية تحمل آثار ظهورها بعد الحرب، فإنها على الأقل — من حيث كونها أسلوبًا للتفلسف والتعامل مع الموضوعات المهمة في حياة الناس — قديمة قِدم الفلسفة نفسها، وهي معاصرة شأن الحالة الإنسانية التي تعكف على دراستها. ولكي أضمن منذ البداية عدم إغفال هذه النقطة، سأبدأ الفصل الأول بمناقشة علم الفلسفة، لا كمذهب أو نظام فكري وإنما كأسلوب حياة. وقد استوحيت عنوان الفصل الأول من دراسة الباحث الكلاسيكي بيير هادو عن عودة المذهب الرواقي كمثال يوضح كيف تستطيع الفلسفة «القديمة» أن تجعل لحياة الناس معنًى حتى في أيامنا المعاصرة. ومع أن هادو يفضل فلسفة الإغريق والرومان، فإنه يجد اهتمامًا مشابهًا في كتابات سورين كيركجارد وفريدريك نيتشه، المعروفَين ﺑ «رائدي» الحركة الوجودية في القرن التاسع عشر، ولدى خلفائهما في القرن العشرين.
من المعروف عمومًا أن الوجودية فلسفة تدور حول الفرد بكيانه المادي الملموس. وهذه نقطة قوتها ونقطة ضعفها في الآن ذاته. ففي عصر وسائل الإعلام الجماهيرية والدمار الشامل، يُحسَب للوجودية دفاعها عن القيمة الأصيلة لمن يسميه مناصرها الرئيسي سارتر «الفرد الطبيعي الحر»، أي الفرد الفاعل المكون من لحم ودم. ونظرًا إلى الانجذاب الذي يكاد لا يقاوم نحو الانصياع للعادات في مجتمعنا الحديث، فإن ما سنسميه «فردية وجودية» يعد إنجازًا، لكن ليس دائمًا. فنحن نولد مخلوقات بيولوجية، لكننا يجب أن نصبح أفرادًا وجوديين عن طريق تحمل مسئولية أفعالنا. هذا تطبيق لنصيحة نيتشه بأن «تتصرف على طبيعتك التي جُبلت عليها». لا يعترف كثير من الناس بهذه المسئولية وإنما يتهربون من فرديتهم الوجودية إلى أمان الزحام المفتقر إلى الهوية. وكدرس عملي للتحول إلى الفردية، سأتناول في الفصل الثاني ما يسميه كيركجارد «دوائر» الوجود أو «خطوات على طريق الحياة»، وسأختم ببعض الملاحظات حول كيف كان نيتشه سينظر إلى مشروع التحول إلى الفردية الوجودية هذا.
بعد انتهاء الحرب بقليل، ألقى سارتر محاضرة عامة بعنوان «هل الوجودية فلسفة إنسانية؟» هزت الحياة الثقافية في باريس وكانت بمنزلة بيان رسمي بإطلاق الحركة الوجودية. منذ ذلك الحين، ارتبطت الوجودية بنوع معين من الفلسفة الإنسانية التي تولي الإنسان والقيم الإنسانية مكانة مرموقة، وارتبطت بانتقاد صور بديلة من الفلسفة الإنسانية المقبولة وقتذاك. في الفصل الثالث أناقش آثار هذه المحاضرة المعقدة، وهي الوحيدة التي ندم سارتر على نشرها، علاوة على «رد» معاصره مارتن هايدجر في مقاله الشهير «رسالة في النزعة الإنسانية».
ومع أنه قد شاع أن القيمة الأسمى للفكر الوجودي هي الحرية، فإن فضيلته التي تحتل الصدارة هي الصدق. يُخصص الفصل الرابع للحديث عن هذا الموضوع بالإضافة إلى طبيعة وصور خداع الذات، التي تمثل نقيضًا له. وقد ربطتُ بين الصدق والفردية الوجودية، وفكرت في احتمالية وجود خُلُق صدق قائم على المسئولية الوجودية.
ولكي أواجه النقد، الذي انتشر عقب الحرب مباشرة، بأن الوجودية ليست إلا صورة أخرى من الفردية البرجوازية المُجرَّدة من الوعي الجمعي وغير المبالية بالحاجة إلى تناول المشكلات الأخلاقية للعصر، خصصت الفصل الخامس للحديث عن مشكلة «الفردية المكبوتة»، حسبما يحاول الوجوديون تصور التضامن الاجتماعي بأسلوب سيعزز حرية ومسئولية الفرد بدلًا من أن يهددهما، وهو ما يبقى أمرًا غير قابل للتفاوض.
أما في الفصل الأخير، فإنني أتناول الجوانب السابقة وغيرها التي يتسم بها الفكر الوجودي للتدبر في ارتباط الفلسفة الوجودية المستمر بعصرنا. من الضروري أن نفصل بين الدلالة الفلسفية للحركة ورؤاها القوية واهتمامها بالملموس، وبين الزخارف الجذابة والبالية في الوقت نفسه التي اتسمت بها في سنوات مراهقتها في ليفت بانك. ومن بين عدة موضوعات مرشحة محتملة اخترت أربعة موضوعات مهمة في عصرنا كان للوجوديين فيها إضافة فلسفية.
ثمة سمتان لهذا الكتاب المختصر قد يعتبرهما القارئ من أوجه القصور، حتى في مقدمة قصيرة، وهما: غياب عدد كبير من «الوجوديين» المعروفين، وعلى النقيض من ذلك، الحضور — المفرط أحيانًا — لجان بول سارتر على مدار صفحات الكتاب. فيما يتعلق بالسمة الأولى، فعلى الرغم من أنه كان بمقدوري أن أذكر — على سبيل المثال — ديستويفسكي أو كافكا، أو جياكوميتي أو بيكاسو، أو يونسكو أو بيكيت، وكلهم نماذج قوية للموضوعات الوجودية في الفن، فقد انصب اهتمامي على التعامل مع الوجودية كحركة فلسفية ذات آثار فنية بدلًا من اعتبارها (مجرد) حركة أدبية ذات ادعاءات فلسفية، وهو المفهوم الشائع مع خطئه. السبب وراء عدم مناقشتي بوبير أو بيرديف، أو أورتيجا إي جاسيت أو أونامونو، وغيرهم الكثير من الفلاسفة الذين يستحقون الذكر هنا، هو أن هذا الكتاب ما هو سوى مقدمة قصيرة «جدًّا». وسيجد المهتمون بقراءة المزيد عن الموضوعات التي نوقشت هنا اقتراحات بمصادر مفيدة في نهاية الكتاب.



بيانات الكتاب


الأسم : الوجودية
المؤلف :  توماس آر فلين
المترجم : مروة عبد السلام
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م



ما القيادة؟ حسنًا، بالرغم مما يقرب من ثلاثة آلاف عام من التأمل وما يزيد على القرن من البحث «الأكاديمي» في القيادة، فيبدو أننا لم نقترب من اتفاق على المعنى الأساسي لها، فضلًا عن إمكانية تعلمها أو قياس تأثيراتها أو التنبؤ بها. ولا يمكن أن يرجع ذلك إلى قلة الاهتمام بهذا الموضوع أو قلة المواد المتعلقة به؛ فحتى ٢٩ أكتوبر ٢٠٠٣، كان هناك ١٤١٣٩ كتابًا تتناول موضوع «القيادة»
معروضة للبيع على موقع «أمازون دوت كوم دوت يو كيه» الإلكتروني. وفي غضون ست سنوات فقط من ذلك التاريخ، تضاعف هذا العدد أربع مرات ليصل إلى ٥٣١٢١ كتابًا، وهناك دليل واضح على أنه خلال فترة قليلة من الزمن سيفوق عدد الكتب التي تتناول القيادة عدد من يقرءون هذه الكتب. وسنلتمس لك العذر إذا ما اعتقدت أن الزيادة في المعلومات تقود إلى فهم أفضل. فمع الأسف، يبدو أننا نتسبب في إضفاء تباين أكبر بكثير على مفاهيمنا حول تعريف القيادة، وكذلك أننا أبعد من «الحقيقة» المتعلقة بهذا التعريف عما كنا عليه قبل الشروع في نشر هذه الأفكار الكثيرة. ويمثل الشكل ١-١ في الحقيقة رحلتي الخاصة في الكتابات المنشورة عن القيادة؛ فعندما بدأت أقرأ في الكتابات المنشورة عن القيادة عام ١٩٨٦ تقريبًا، كنت قد شغلت بالفعل عدة مواقع قيادية؛ لذا ففي تلك المرحلة كنت قد قرأت القليل، ولكني استقيت كل ما فهمته عن القيادة من جامعة الحياة. بعد ذلك، وبينما كنت أواصل قراءة المزيد، أدركت أن كل ما أعرفه من «حقائق» سابقة كان مبنيًّا على أسس غامضة، لذا قَلَّ فهمي مع زيادة معرفتي. وكان عام ٢٠٠٦ صعبًا: فقد قرأت مئات — إن لم يكن آلافًا — من الكتب والمقالات، وخلصت إلى أن سقراط كان محقًّا عندما قال إن الحكمة لا تأتي إلا عندما تكتشف مقدار جهلك. وأعتقد أنني الآن على طريق التعافي، وقد تجاوزت بداية هذا الطريق بالاستنتاج الآتي: «جوهر» القيادة في أبسط صوره — مثل قائد فرد — يهمل الأتباع، ودون أتباع لا يمكن أن تكون قائدًا. والحق أن ذلك يمكن أن يكون أبسط تعريف للقيادة وهو: «أن يكون لديك أتباع.»
إذن، كيف سنتناول هذا الموضوع؟ إن أهمية تعريف القيادة لا تكمن ببساطة في وضع منظومة مصطلحات لها، إلى جانب أن الأمر ليس لعبة من ألعاب السفسطة؛ والحقيقة أننا لسنا بحاجة فعلًا إلى أن نتفق على تعريف (على الرغم من أن المؤسسات ينبغي على الأرجح أن تتفق على تعريف)، ولكن ينبغي علينا على الأقل أن نتمكن من فهم موقع كل منا بالنسبة للآخر، بحيث يستطيع كل منا إدراك وفهم الحجج التي يسوقها الآخر. وبادئ ذي بدء، فإن الكيفية التي نعرف بها القيادة لها دلالات حيوية على الكيفية التي تعمل — أو لا تعمل — بها المؤسسات، وعلى تحديد من نكافئ ومن نعاقب. قبل حوالي ٥٠ عامًا، وصف دابليو بي جالي القوة بأنها «مفهوم خلافي في الأساس»؛ فجالي يرى أن هناك الكثير من المفاهيم — مثل القوة — تدور «بين مستخدميها نزاعات واختلافات لا تحصى حول الاستخدام الصحيح لها»، حتى إن هذه الاختلافات صار من المتعذر حلها. فمثلًا، من الوارد أن تؤدي مناقشة هل كان بوش — أو بلير — قائدًا «جيدًا» إلى سخونة في النقاش بدلًا من بصيص أمل غالٍ في التوصل إلى اتفاق بين أطراف النقاش، الذين يقدمون تعريفات مختلفة لمفهوم القيادة «الجيدة».
لذلك، لسنا بحاجة إلى الاتفاق على التعريف، ولكننا بحاجة إلى أن نعرف ماهية التعريفات. وربما نبدأ بالنظر فيما تقوله أشهر الكتب في المسألة. فالعديد من هذه الكتب يدور حول سير ذاتية أو سير أشخاص؛ فهي تربط القيادة «بالشخص» الذي يُنْظَرُ إليه على أنه القائد. ويعرِّف آخرون القيادة بأنها عملية؛ ربما يقصد بها الأسلوب الذي يتبناه القادة، أو عملية «تشكيل معنى» («عملية تشكيل معنى للمعلومات غير المفهومة والمتناقضة.» وفقًا لما قاله ويك)، أو لعلها ممارسات القادة. ويعرِّف البعض القيادة بأنها مجرد التفكير فيما يفعله من لديهم السلطة، وذلك هو المنهج الوظيفي. يكون التعريف غالبًا قريبًا من تعريف القوة المشتق من الفكرة الأصلية لويبر ودال عن القوة (ومن ثم القيادة) بأنها القدرة على جعل شخص ما يفعل شيئًا لم يكن ليفعله في ظروف أخرى. ويميل هذا المنهج إلى قصر فكرة القيادة على تحريك جماعة أو مجتمع لتحقيق غرض ما، وهذا هو منهج النتائج. وسوف نعود إلى بعض هذه المناهج، ولكن بعيدًا عن السمات المتنوعة لهذه التعريفات؛ فقد زادت — ولم تقلِّلْ — من تشوشنا. يبدو أن القيادة لها الكثير من التعريفات المختلفة إذن، وعلى الرغم من وجود بعض أوجه التشابه بين هذه التعريفات، فإن التعقيدات تقوض أغلب المحاولات لتفسير السبب في وجود الاختلافات. ومع ذلك فإن التباينات تبدو وكأنها تدور حول أربعة مجالات مختلف عليها؛ تتمثل في تعريف القيادة بأنها «موقع وظيفي» أو «شخص» أو «نتيجة» أو «عملية».
لا يشمل هذا التصنيف الرباعي جوانب القيادة كافة، ولكن من المفترض أنه يشمل جزءًا كبيرًا من تعريفاتنا للقيادة. والأكثر من ذلك أن هذا النمط ليس تصنيفًا هرميًّا؛ أي إنه لا يعطي لأحد التعريفات أهمية أكبر من التعريفات الأخرى، بل إنه — على العكس من المنهج التوافقي — يستند فيه كل تعريف على أسس ربما تكون متعارضة. ففي واقع الأمر، ربما نضطر إلى أن نحدد شكل القيادة الذي نتحدث عنه بدلًا من أن نحاول أن نزيل الاختلافات. إلا أنه من الممكن أن تتضمن هذه النماذج التجريبية للقيادة عناصر مشتركة بين أشكال القيادة الأربعة. ومن ثم، يصبح أمامنا أربعة بدائل



بيانات الكتاب


الأسم : القيادة
المؤلف :  كيث جرينت
المترجم : حسين التلاوي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م




هذه المقدمة للأفلام الوثائقية موجهة لمحبي مشاهدة هذه النوعية من الأفلام الراغبين في معرفة المزيد عن هذا الشكل الفني، ولمن يودون صنع أفلام وثائقية ويرغبون في معرفة المزيد عن هذا المجال وآفاقه، وأيضًا للطلاب والمعلمين الذين يأملون في تعلم المزيد وإخبار الآخرين بما تعلموه.
هذا الكتاب منظم بحيث يقدم نظرة عامة على القضايا الأساسية، ثم ينتقل لمناقشة الأنواع الفرعية المختلفة. فقد أردت على وجه الخصوص أن أستخدم أنواعًا تستطيع مواجهة المخاوف المتعلقة بالموضوعية والمحاباة والتحيز، هذه الأشياء التي طالما أحاطت بالأفلام الوثائقية، ولكن بقوة متجددة منذ الشعبية الطاغية التي حظي بها فيلم «فهرنهايت ٩ / ١١». وقد كان بمقدوري أن أختار أو أضيف أنواعًا أخرى بسهولة، مثل الموسيقى، والرياضة، والعمل، واليوميات، والطعام، لكن جاء اختياري للأنواع التي استخدمتها هنا لأنها أنواع شائعة في سوق الأفلام الوثائقية، ولأنها تطرح قضايا مهمة عن الحقيقة وتجسيد الواقع.
يتيح لك هذا التنظيم الموضوعي الدخول إلى الموضوع بسهولة من خلال نوعية الأفلام التي جذبتك إليها منذ البداية، ويتيح لي الربط بين الحقب التاريخية وإظهار الطبيعة المتطورة للخلافات الأساسية في مجال الأفلام الوثائقية. وربما يلاحظ هؤلاء الذين يفضلون تسلسلًا زمنيًّا أكثر وضوحًا أن كل فصل من الفصول التي تتناول الأنواع الفرعية منظم زمنيًّا (باستثناء فصل الدعاية الذي يركز إلى حد بعيد على فترة الحرب العالمية الثانية). لذا، بعد قراءة الفصول الأربعة الأولى التي تتناول القضايا الأساسية والتاريخ المبكر للأفلام الوثائقية، يمكن للقارئ أن يطالع الأجزاء الأولى من الفصول التي تتناول الأنواع الفرعية المتعددة، ثم العودة للجزء التالي من كل فصل من الفصول.
وحيث إن مادة الكتاب ليست مستقاة من المعرفة العلمية فحسب، ولكن من خبرتي كناقدة أفلام على مدى أربعة عقود، فإنها تعكس اهتماماتي ومواطن القصور لدي. والجزء الأكبر من المعرفة العلمية التي أشير إليها مكتوب باللغة الإنجليزية، وأنا متحيزة للأفلام الوثائقية الطويلة وأعمال صناع الأفلام المستقلين.
نبع انجذابي للأفلام الوثائقية في الأساس من وعدٍ جذب الكثير من صناع الأفلام لذلك الشكل الفني؛ ذلك الوعد الذي وصفه المحرر والناقد البارز داي فون، في مقالة عن التهديد الذي تمثله المعالجة الرقمية للفيلم الوثائقي، بأنه «الإحساس الداخلي بأنه لو أتيح للناس أن يشاهدوا بحرية، لشاهدوا بإخلاص، ناظرين إلى عالمهم بأنه قابل للتدقيق والتقييم، وأنه على القدر نفسه من المطاوعة والمرونة التي يتسم بها الفيلم». وقد وجدت الإلهام في أعمال المخرجين أمثال ليز بلانك، وهنري هامبتون، وبيريو هونكاسالو، وباربرا كوبل، وكيم لونجينوتو، ومارسيل أوفيلس، وجوردون كوين، وأجنس فاردا.
وإنني ممتنة لإلدا روتور بأكسفورد يونيفرسيتي برس التي اقترحت عليَّ فكرة تأليف هذا الكتاب، وسيبيل توم التي حملت على عاتقها مهمة تحرير الكتاب قبل مغادرتها، والمحررة ماري ساذرلاند. لقد أغدق عليَّ كثير من زملائي، في برامج الدراسات السينمائية والسينما والاتصالات والأدب، بالرؤى التي أحاول الكشف عنها في هذا الكتاب. لذا أتقدم بخالص التقدير للدعم الذي حظيت به من العاملين بمكتبة الجامعة الأمريكية، خاصة كريس لويس. وأدين بالفضل لرون ساتون، مستشاري وناصحي بالجامعة الأمريكية، وكذلك لدين لاري كيركمان بكلية الاتصالات بالجامعة الأمريكية، الذي منحني شرفًا لا يقدر بثمن بتقديمي لإريك بارنو، وأيضًا باربرا أبراش التي فتحت أبوابًا عديدة للأفكار والفرص. كذلك، كان لمشروعاتي مع مجلس المؤسسات (خاصة مع إيفلين جيبسون)، ومؤسسة فورد (خاصة مع أورلاندو باجويل) أثرها في تعميق معرفتي بالمجال. وإنني ممتنة كذلك لجوردون كوين، ونينا سيفي، وستيفان شوارتزمان، وجورج ستوني، ولمراجعين لا أعرف أسماءهم لتعليقاتهم خلال مرحلة إخراج النسخة النهائية من الكتاب.

بيانات الكتاب


الأسم : الفيلم الوثائقي
المؤلف :  باتريشيا أوفدرهايدي
المترجم : شيماء طه الريدي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م




هذا الكتاب مقدمة عن الفيروسات وُضعت لعموم القراء. يتناول الفصلان الأول والثاني تركيب الفيروسات وأنواعها وأماكن معيشتها وأسلوب حياتها والآثار التي تحدثها، بدءًا من آثارها في الفرد المصاب بالعدوى وصولًا إلى آثارها في الكوكب بأسره. يستعرض الكتاب بعد ذلك المعركة المتواصلة بين الفيروسات وجهاز المناعة لدى الفرد المصاب بالعدوى، يلي ذلك مجموعة من الفصول التي
تتناول العدوى بفئات معينة من الفيروسات، سواء أكانت حديثة الظهور، أم وبائية، أم جائحة، أم الكامنة داخل الجسم طيلة العمر، والتي قد يتسبب بعضها في إحداث أورام. وتبحث الفصول التالية بعد ذلك في مسألة كيف تطورت معرفتنا بالفيروسات عبر العصور، وكيف زادت الثورة الجزيئية الحديثة من قدرتنا على عزل فيروسات جديدة وتشخيص حالات العدوى الفيروسية وعلاجها. ويأتي الفصل الأخير من الكتاب كي يلقي نظرة تاريخية على النمط المتغير لحالات العدوى الفيروسية عبر العصور المختلفة، ويتكهن بالكيفية التي ربما يتفاعل من خلالها البشر مع الفيروسات في المستقبل.
تجنبت المؤلفة قدر استطاعتها استعمال المصطلحات المتخصصة والفنية في النص، ولكن كلما كان ذكر تلك المصطلحات أمرًا لا مفر منه، شرحت معناها في مسرد للمصطلحات. ويشمل هذا أيضًا أسباب تسمية الفيروسات بأسمائها الواردة. علاوة على ذلك، وردت في نهاية الكتاب قائمة بالمراجع والكتب المقترح مطالعتها لمزيد من المعرفة.

تطورت الميكروبات البدائية على كوكب الأرض منذ ما يقرب من ثلاثة مليارات عام، غير أن الإنسان لم يتمكن من عزلها إلا في أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن يكتب هيلاير بيلوك قصيدة «الميكروب» بما يقرب من عشرين عامًا. ومع أن تلك القصيدة كتبت كنوع من الترفيه عن الناس، فإنها تعكس نزعة الشك التي سادت تلك الأزمنة. ولا بد أن الأمر استدعى وثبة إيمانية هائلة من الناس حتى يتقبلوا فكرة وجود كائنات حية دقيقة الحجم وكونها هي المسئولة عن الأمراض التي كانت حتى ذلك الحين تعزى إلى أسباب متنوعة مثل إرادة الآلهة، أو اصطفاف الكواكب على خط واحد، أو الأبخرة الوبائية المتصاعدة من المستنقعات والمواد العضوية المتحللة. وبالطبع، لم يتكون هذا الإدراك الجديد بين عشية وضحاها، لكن مع التعرف على المزيد والمزيد من أنواع البكتيريا المختلفة، ترسخت «النظرية الجرثومية»، ومع بدايات القرن العشرين صار مقبولًا على نطاق واسع حتى في الدوائر غير العلمية أن الميكروبات بإمكانها أن تسبب الأمراض.
كانت التطورات التقنية التي تحققت في صناعة الميكروسكوبات على يد صانع العدسات الهولندي أنتوني فان ليوفنهويك (١٦٣٢–١٧٢٣) في القرن السادس عشر من الأهمية بمكان لهذه الوثبة. كان هو أول من شاهد الميكروبات، غير أن الأمر مع ذلك احتاج إلى الانتظار حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما أجرى كل من لوي باستير (١٨٢٢–١٨٩٥) في باريس وروبرت كوخ (١٨٤٣–١٩١٠) في برلين أبحاثهما، التي شكلت فتوحات علمية كبرى وأكدت أن «الجراثيم» هي سبب الأمراض المعدية؛ ما أكسبهما عن جدارة لقب «الأبوين المؤسسين لعلم الميكروبيولوجيا (علم الأحياء الدقيقة)». كان باستير صاحب إسهام رئيسي في محو الاعتقاد الذي كان سائدًا في أذهان العامة وهو حدوث «تولد تلقائي»؛ بمعنى، تولُّد حياة من مادة غير عضوية. في ذلك الوقت، كان نمو الفطريات فوق أسطح الطعام والشراب المختزن يمثل مشكلة ذات أهمية خاصة. وقد شرح باستير أن بالإمكان منع هذا الأمر في حالة المرق بأن يُغلى أولًا، ثم يوضع بعد ذلك في غرفة مزودة بمرشحات تحجز خلفها أي مادة مكونة من جسيمات آتية مع الهواء. وأظهر هذا وجود «جراثيم» مجهرية الحجم يحملها الهواء. وعام ١٨٧٦، عزل كوخ أول فصيل بكتيري، «الجمرة العصوية»، وسرعان ما ابتكر وسائل لزراعة الميكروبات في المختبر.
وبدأت الأمراض التي كانت تصنع الرعب، كالجمرة الخبيثة والدرن والكوليرا والدفتيريا، تكشف عن أسرارها واحدًا تلو الآخر عندما حُددت الميكروبات المسببة لها واكتُشفت صفاتها. وصار من الواضح أن للبكتيريا تركيبًا مماثلًا لتركيب خلايا الثدييات، فمعظمها له جدار خلوي يحيط بسيتوبلازم يحوي بداخله جزيئًا واحدًا دائري الشكل ملتف حول نفسه من الحمض النووي. تعيش الغالبية العظمى من البكتيريا حرة، ما معناه أن في استطاعتها تصنيع جميع البروتينات التي تحتاجها بنفسها، وأن تمارس الأيض وأن تنقسم دون مساعدة من كائنات أخرى.

بيانات الكتاب


الأسم : الفيروسات
المؤلف :  دوروثي إتش كروفورد
المترجم : أسامة فاروق حسن
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م





إن مفهوم العلاقات الدولية مفهوم فضفاض للغاية، فهو في استخدامه الحديث لا يشمل العلاقات بين الدول فحسب، بل يشمل أيضًا العلاقات القائمة بين الدول والمنظمات من غير الدول؛ مثل الكنائس ومنظمات الإغاثة الإنسانية والشركات متعددة الجنسيات، والعلاقات القائمة بين الدول والمنظمات الحكومية الدولية؛ كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وسوف أستخدم في هذه المقدمة
القصيرة جدًّا هذا المفهوم الفضفاض لمادة العلاقات الدولية.

تُدَرَّس مادة العلاقات الدولية في جامعات عديدة، مقترنة في كثير من الأحيان بمنهج العلوم السياسية، أو متضمَّنَة فيه. إلا أنني أرى أن محاولة علماء السياسة أن يفرضوا نوعًا من أنواع الاحتكار على مادة العلاقات الدولية هو أمر غير قابل للتطبيق ولا الاستمرار؛ فالدارس الجاد للعلاقات الدولية يجب أن يتحلى ببعض المعرفة بالتاريخ والقانون والاقتصاد الدوليين، إضافةً إلى السياسة الخارجية والسياسة الدولية.

وقد كانت تلك الطبيعة المركَّبة ومتعددة التخصصات لمادة العلاقات الدولية هي التي جعلت من البحث عن نظرية عامة فعالة للعلاقات الدولية «مهمة مستحيلة». ولا يعني هذا أنه لا توجد نظريات جزئية أو محدودة قيِّمة يمكن تطبيقها على جوانب بعينها من تلك المادة (على سبيل المثال: ثمة مجموعة من النظريات المفيدة في مجالات التنمية الدولية، والحد من الأسلحة، والدورات التجارية، وسباقات التسلُّح)، بيْد أنَّ مدراس الفكر الرئيسية التي توضع على أساسها نظرية عامة في مجال العلاقات الدولية لم تثبُت بأي شكل علمي، بل إنها تمثِّل طرقًا لفهم العلاقات الدولية، أو صورًا تشبيهية أو نماذج تَلقى قبول المقتنعين بها؛ لأن تلك هي الطريقة التي يفضلون رؤية العالم بها. ويمكن القول إنَّه إذا ساد نهج بعينه من نُهُج تفسير العلاقات الدولية بالقدر الكافي، فقد يصبح مُرضيًا في حد ذاته. وأحد الأمثلة الجيدة على ذلك هي النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، التي يمكن القول إنها ما زالت أكثر المدارس الفكرية تأثيرًا في مجال العلاقات الدولية على طرفي المحيط الأطلنطي.

(٢) النظرية الواقعية

إن الرائدَين الفعليَّين للمدرسة الواقعية الحديثة في العلاقات الدولية هما نيكولو مكيافيللي — مؤلف كتاب «الأمير» (١٥٣٢) — وتوماس هوبز — مؤلف كتاب «اللوياثان» (١٦٥١) — إذ افترض كِلا هذين الفيلسوفين السياسيين أن البشر تدفعهم بالأساس مصالحهم الذاتية وشهواتهم، وأن أكثر تلك الشهوات تفشيًا وانطواءً على خطورة محتملة هي شهوة السلطة. ورأَيا أن حاكم الدولة هو الضامن الحقيقي والوحيد للسلام الداخلي؛ لأنه وحده يتمتع بسلطة فرض ذلك السلام. بيد أنَّه في عالم السياسة الدولية الأشمل تسود شريعة الغاب.

وقد رأيا أن السياسة الدولية هي صراع مستمر على السلطة، لا تترتب عليه لزامًا حروب علنية متواصلة، ولكنه دائمًا ما يستلزم التأهب لخوض الحرب. وفي خِضَم حالة الفوضى السياسية المستمرة هذه، يكون المسار الحصيف الوحيد أمام الأمير هو شحذ أكبر قدر ممكن من القوة، وإعمالها في حماية المصلحة الوطنية لبلاده والسعي وراءها. ولهذا الغرض كانت القوة العسكرية هي المطلب الأهم، واعتُبِرت الثروة المتكونة عن التجارة والصناعة وسيلةً في المقام الأول لاكتساب القوة العسكرية اللازمة.



بيانات الكتاب


الأسم : العلاقات الدولية
المؤلف :  بول ويلكينسون
المترجم : لبنى عماد تركي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م




السرطان مرض شائع، بل هو شديد الشيوع. في عام ٢٠٠٨، شُخِّص المرض لدى ما يقرب من ١٢٫٧ مليون نسمة، توفي منهم ٧٫٩ ملايين شخص، فشكّلوا ما يقرب من ١٣٪ من إجمالي الوفيات في ذلك العام. وبالرغم من الاعتقاد أن السرطان مرض يصيب كبار السن في البلدان صاحبة الاقتصاد الأكثر ثراءً، فإن حوالي ٧٠٪ من تلك الوفيات وقعت في البلدان ذات الدخول المنخفضة أو المتوسطة. ويصيب السرطان كلا الجنسين وجميع الأعراق، الغنية منها والفقيرة على السواء. يخشى الناس من تشخيص المرض، إذ
يعتبره المصابون به (وكثيرًا ما يكون هذا الافتراض صائبًا) حكمًا بالإعدام. والمرض ذاته وعلاجه من الأسباب الكبرى للألم والاكتئاب. فعلاج السرطان عبء هائل على أنظمة الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم، ويعد المرض من الأسباب الرئيسية لفقدان القدرة الإنتاجية في القوى العاملة نتيجة للوفاة المبكرة. وسوف نلقي في هذا الفصل نظرة عامة على مشكلة السرطان، مع التركيز على بعض أنواع السرطان الأكثر شيوعًا حتى نوضح للقارئ حجم التباين في أعداد المصابين به في أنحاء العالم. وأي مرض يصيب هذا العدد الهائل من الأفراد ستكون له علاوة على ذلك آثار اقتصادية خطيرة، لهذا سنسلط في هذا الفصل أيضًا الضوء على بعض الأساليب التي تتفاعل من خلالها الخدمات الصحية مع الاقتصاد، وهي نقاط سوف نعرضها بمزيد من التفصيل في فصول لاحقة. وتلقي دراسة أنماط معدلات الإصابة بالسرطان ضوءًا مثيرًا للغاية على أسباب مرض السرطان (التي يتناولها الفصل الثاني بالتفصيل). أيضًا سوف نلقي الضوء على بعض الروابط الأكثر إثارة للدهشة في هذا الفصل.
تشكل رعاية مرضى السرطان والأبحاث التي تجرى عليه أيضًا عناصر مهمة في النشاط الصناعي. فنصف إجمالي العقاقير التي تستخدم في التجارب السريرية خاصة بالسرطان، وقد قُدِّرت السوق العالمية لجميع أدوية السرطان بقيمة ٤٨ مليار دولار عام ٢٠٠٨ بعد أن كانت ٣٤٫٦ مليارًا عام ٢٠٠٦. ويتوقع المحللون أن يتجاوز حجم النمو نسبة ١٠٪ سنويًّا في الفترة من عام ٢٠١٠ إلى ٢٠١٥. وفي كل عام تنفق الصناعة الدوائية ما بين ٦٫٥ إلى ٨ مليارات دولار على أبحاث أدوية السرطان وتطويرها. ويجعل هذا المبلغ ما تنفقه الحكومات والجهات البحثية الخيرية على تطوير الأدوية هزيلًا، ما قد يعني أن الأدوية الجديدة تتركز في المجالات التي تحقق أعلى تأثير تجاري، لا على تلك التي تؤثر في الصحة العامة. وتعد شركات الدواء صاحبة عقاقير السرطان الناجحة من كبرى المؤسسات التجارية على مستوى العالم. أما شركات التكنولوجيا الحيوية التي لا تمتلك منتجات رائجة، لكنها تعمل على نحو واعد للوصول إلى عقار للسرطان، فيمكن أن تبلغ قيمتها مليارات الدولارات لا لشيء إلا لاحتمال أن يُرخَّص هذا العقار في أي وقت لاحق كعلاج للسرطان. وهناك ما لا يقل عن ١٩ عقارًا مضادًّا للسرطان تجاوزت مبيعات كل واحد منها مليار دولار عام ٢٠٠٩، وهو رقم يشكل عبئًا جسيمًا على الأنظمة الصحية حتى في أكثر بلدان العالم ثراءً التي تتحمل عبء شراء تلك الأدوية لمرضاها.
على الجانب الآخر، فإن قدرة ما يقرب من ثلث عدد مرضى السرطان على الوصول إلى علاج فعال محدودة للغاية، وترتفع هذه النسبة في أفقر بلدان العالم إلى أكثر من نصف المرضى. وبمضينا قدمًا على هذا المنوال، ربما يصل بنا الحال — مع تزايد عدد كبار السن وارتفاع أسعار الأدوية — إلى وقت لا يتاح فيه العلاج الدوائي «الأكثر تطورًا» إلا للشريحة الأكثر ثراءً في أكثر النظم الاقتصادية ثراءً. بدلًا من ذلك، ربما يتيح تنبؤ أفضل بالاستجابة للعلاج خيارات علاجية موجهة لكل فرد على حدة، مما يقلل التكاليف الناتجة عن العلاج غير الضروري أو غير الفعال. فعلى عكس السيارات أو أجهزة الكمبيوتر مثلًا، التي نتوقع منها أن تؤدي عملها في كل مرة نستخدمها فيها، لا تنجح معظم أدوية السرطان إلا مع نسبة من المرضى. أما مرضى المراحل المتقدمة، الذين يكون الهدف من العلاج معهم تخفيف أعراض المرض أو تحسين جودة حياتهم، فربما تقل هذه النسبة كثيرًا عن ٥٠٪، ومن ثم فإن غالبية العلاجات قد تكون بلا فائدة، أو ما هو أكثر من ذلك في الواقع؛ إذ إنها قد تتسبب في آثار جانبية دون أن تحقق أي منفعة. لذا، فإن القدرة على تحديد المرضى الذين يحتمل أن يستفيدوا من العلاج قبل تقديمه لهم أمر بالغ الجدوى من ناحية التكلفة ومن الناحية العلاجية، ولهذا صار هذا الأمر موضع اهتمام رئيسي لأبحاث السرطان التي تجري حاليًّا (انظر الفصلين الرابع والخامس).
علاوة على ذلك، استحوذ السرطان على اهتمام جامعات العالم وأوساطه الأكاديمية. ففي عام ١٩٦١، تعهد جون كنيدي بإرسال إنسان إلى القمر بحلول نهاية ذلك العقد. وبعدها بتسع سنوات، سار نيل أرمسترونج وباز ألدرين فوق سطح القمر. وبعدها بعشر سنوات، في عام ١٩٧١، أطلق نيكسون تعهدًا مماثلًا بإعلانه «الحرب» على السرطان. وفيما يشبه كثيرًا «الحرب على الإرهاب» التي أُعلِنت حديثًا، فإن إعلان الحرب على مشكلة عالمية متعددة الأوجه لم يحقق سوى نجاح جزئي على أفضل تقدير. فتعهد نيكسون المبدئي كان بمبلغ يقترب من ١٠٠ مليون دولار، وكان هذا الرقم يبدو أشبه بثروة طائلة في ذلك الوقت، غير أنه تبين فيما بعد أنه بالكاد يعالج الأمر سطحيًّا فقط. ومنذ عام ١٩٧١، كان هناك المزيد من مليارات الدولارات التي أنفقت على الأبحاث، لكن بعد أكثر من ثلاثين عامًا، لا يزال السرطان واحدًا من أهم أسباب الوفاة في أنحاء العالم، إذ يصاب به حوالي شخص من بين كل ٣ أشخاص في البلدان المتقدمة، ويتوفى بسببه في البلدان الغربية واحد من كل خمسة أشخاص. من الواضح أن مداواة السرطان أصعب من «علم الصواريخ».
تنفق الدول بجميع أنحاء العالم مبالغ طائلة على أبحاث تدور حول أسباب السرطان وعلاجه. ففي عامي ٢٠٠٩ / ٢٠١٠، أنفق المعهد الأمريكي القومي للسرطان ٤٫٧ مليارات دولار على أبحاث السرطان، وكان المبلغ المناظر الذي أنفقته أوروبا حوالي ١٫٤ مليار يورو. وفي المملكة المتحدة، يعد أكبر منفق في هذا المجال «مؤسسة أبحاث السرطان بالمملكة المتحدة»، وهي واحدة من كبرى المؤسسات البريطانية الخيرية، التي حققت في عام ٢٠١٠ دخلًا سنويًّا من التبرعات يزيد عن ٥٠٠ مليون جنيه استرليني، مما يعكس الأهمية التي تُمنَح لمسألة البحث عن أسباب السرطان والعلاجات الناجعة له بين قطاع أكبر من السكان (غير أن المتلقي الأساسي للتبرعات العامة هو الحيوانات لا البشر!) وبالرغم من هذا الإنفاق الهائل على الأبحاث، فما زلنا لا نفهم بحق السبب وراء نسبة هائلة من أنواع السرطان. علاوة على ذلك، وبالرغم مما أُنفِق من مال على العقاقير وأبحاثها، نجد أن معظم من شفوا من مرضى السرطان، عولجوا إما بالتدخل الجراحي أو بالعلاج الإشعاعي، كما سنشرح في الفصل الثالث. أما العلاج الكيماوي وغيره من أساليب العلاج الأخرى الأحدث عهدًا، مثل الأجسام المضادة وحيدة النسيلة أو العلاجات «بالجزيئات الصغيرة» الموجهة، مع أن أهميتها في ازدياد مستمر، فلا تزال تشكل أقلية بين أساليب العلاج، وإن كان لها دور مهم في تخفيف الأعراض في الحالات المتقدمة من المرض.



بيانات الكتاب


الأسم : السرطان
المؤلف :  نيكولاس جيمس
المترجم : د. أسامة فاروق حسن
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م



نادرًا ما يمر يوم دون أن ترد فيه أخبار عن هجوم جديد على خصوصيتنا، ومنذ ما يقرب من ثلاثين عامًا على وجه التحديد، نشرت كتابًا صغيرًا آخر عن هذا الموضوع المثير للجدل، وعندما أقرأ كتابي «حماية الخصوصية» الآن، أصاب بالذهول الشديد من التغيرات الهائلة التي وقعت نتيجة للتطورات التي شهدتها التكنولوجيا، وأكثر هذه التغيرات وضوحًا بالطبع هو مدى تعرض
المعلومات الشخصية للخطر على شبكة الإنترنت، وتكثر التهديدات الأخرى التي تولدت من رحم العالم الرقمي؛ فالابتكارات في علم المقاييس الحيوية، والمراقبة باستخدام الدوائر التليفزيونية المغلقة، وأنظمة تحديد الهوية باستخدام موجات الراديو، والبطاقات الذكية لتحديد الهوية، وتدابير مكافحة الإرهاب المتعددة تشكل جميعها تهديدات لهذه القيمة الأساسية، حتى في المجتمعات الديمقراطية، ولكن في الوقت ذاته، فإن الانتشار المزعج للبيانات الشخصية من خلال تنامي عدد المدونات، ومواقع شبكات التواصل الاجتماعي — مثل ماي سبيس وفيسبوك ويوتيوب وتويتر — وبقية ابتكارات عصر المعلومات يجعل من التعميمات البسيطة بشأن أهمية الخصوصية أمرًا معقدًا، وقد تسبب ظهور تطبيقات «ويب ٢٫٠» في توسيع نطاق الإنترنت من مزوِّد للمعلومات إلى مكوِّن للمجتمعات، ويستمر النَّهَم الذي لا يشبع لنشر الشائعات في تغذية وسائل الإعلام المروجة للإثارة والفضائح التي كثيرًا ما تحط من مفهوم النطاق الخاص الذي نطالب به كحق مشروع، فالشهرة صارت، على نحو غير مبرر، تعطي الناس رخصة للتدخل في حياة صاحبها.
وقد تغيرت الطريقة التي يجرى بها جمع المعلومات وحفظها وتبادلها واستخدامها إلى الأبد، وتغيرت معها طبيعة التهديدات التي تتعرض لها الخصوصية الفردية، ولكن في حين تكاد الثورة التكنولوجية تمس كل جانب من جوانب حياتنا، فإن التكنولوجيا نفسها ليست بالطبع هي مصدر الشر، وإنما التطبيقات التي تستخدم فيها تلك التكنولوجيا، وقد علمت خلال هذا الأسبوع فقط أن هناك اقتراحًا في الفلبين باستخدام رقاقات «تحديد الهوية باستخدام موجات الراديو» — التي تستخدم على نحو واسع في تتبع البضائع والبيانات الطبية للمرضى — من أجل حماية تلاميذ المدارس من الخطف، فزرع رقاقة تحت الجلد (كتلك التي زُرعت لكلبي) سيكون له — بلا شك — ميزات إيجابية متعددة في تتبع الأفراد المفقودين، بما فيهم أولئك الذين يعانون الخرف، ولكن هل الثمن الذي سندفعه مرتفع للغاية؟ هل سنظل مجتمعًا حرًّا عندما نتخلى عن حقنا في أن نكون غير مراقبين، حتى إذا كانت الغايات نافعة؟
على الرغم من تلك التطورات التقنية المذهلة، فإن كثيرًا من المشكلات التي درستها عام ١٩٨٠ لم تتغير تغيُّرًا جوهريًّا، وفي الحقيقة، إنه لأمر مطمئن نوعًا ما أن أكتشف أنني لا أستطيع أن أعثر إلا على القليل مما يمكنني الاختلاف معه في تحليلي للقضايا الرئيسية للخصوصية التي وردت بذلك الكتاب والمؤلفات الأخرى التي عالجت الموضوع خلال العقود الثلاثة المنصرمة! ربما أكون مخطئًا بالطبع، ولكن بالرغم من مضي أكثر من ثلاثين عامًا، فإنني لا أزال أعتقد أن التوسع السخي للخصوصية بحيث تشمل الأمور «القراراتية» (الإجهاض، منع الحمل، التفضيل الجنسي)، والخلط (المفهوم) بين الخصوصية وبين الحرية والاستقلال الذي ينتج عنها، هو أمر خاطئ، وإنني لأستخلص بعض التعزية من حقيقة أنه خلال التقديرات التشاؤمية المتزايدة التي تشير إلى تدهور مستوى الخصوصية، نادرًا ما تذكر هذه أو تلك من الأمور «القراراتية» التي تتسرب غالبًا إلى منطقة الخصوصية، ومناصرو قضية الخصوصية نادرًا ما يتجشمون عناء التعرض لتلك القضايا — على الرغم من أهميتها — عندما يحذِّرون من المخاطر المتعددة التي يجسدها مجتمعنا المعلوماتي، هل هذا إقرار ضمني بأن المعنى الحقيقي للخصوصية يتوافق مع فهمنا الفطري واستخدامنا لهذا المفهوم؟ أليست الخصوصية في الأساس اهتمامًا بحماية المعلومات الحساسة؟ وعندما نتألم لضياعها، ألسنا نحزن لفقدان السيطرة على حقائق شخصية بشأن أنفسنا؟ وجوهر هذه السيطرة هو الممارسة الصريحة للاستقلال فيما يتعلق بتفاصيل حياتنا شديدة الشخصية، سواء تلك التي يتطفل عليها الآخرون أو التي تنشر على الملأ دون مبرر.
ولكن ربما تكون هذه المقاربة قد جانبها الصواب؟ وإلا فلماذا لا يمكن لحقوق الخصوصية المتباينة أن توجد معًا كأبعاد مختلفة — ولكن متصلة — لنفس الفكرة الجوهرية؟ لماذا لا نسمح ﻟ «الخصوصية المعلوماتية» أن تعيش في سلام مع «الخصوصية القراراتية»؟ المفارقة هي أنني أعتقد أن التجاهل السافر للأولى، والتسارع الدستوري نحو الثانية من قبل المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية، ربما يكونان قد دارا دورة كاملة وعادا إلى نقطة البداية، وأن هناك إشارات بسيطة توحي بوجود إدراك متأخر للحاجة الملحة لتوفير الحماية القانونية للمعلومات الشخصية على الخطوط الأوروبية، كما هو مبين بالصفحات التالية، ومن الأهمية بمكان أن أوضح أن مقاومتي لمعادلة الخصوصية والاستقلالية لا تنبع من إنكار لأهمية الحقوق أو حتى صياغتها في عبارات عامة تيسر الإقرار القانوني بها، وبدلًا من ذلك فإن اعتراضي ينصب على الاعتقاد بأنه من خلال معالجة المشكلة على أنها حماية للمعلومات الشخصية، فإن الصعوبات المتغلغلة التي عادة ما توضع عنوة داخل نطاق الخصوصية ربما تصبح أكثر قابلية للحل، لقد صار مفهوم الخصوصية أكثر غموضًا وصعوبة بحيث لم يعد يصلح كمفهوم يؤدي عملًا تحليليًّا مفيدًا. وقد أضعف هذا الغموض من أهمية تلك القيمة وجعل من الصعب حمايتها بشكل فعال.
كان ارتباطي بالخصوصية وحماية البيانات ارتباطًا من منظور قانوني إلى حد بعيد، ولكن على الرغم من كون القانون أداة لا يمكن الاستغناء عنها في حماية الخصوصية، فمن الواضح أن الموضوع تتشارك فيه عدة أبعاد أخرى؛ اجتماعية، وثقافية، وسياسية، ونفسية، وفلسفية، وإنني أحاول في هذا الكتاب أن أتناول هذه القوى — وغيرها من القوى — التي تشكل فهمنا لهذا المفهوم صعب الإدراك.
لقد بدأت رحلتي مع الخصوصية منذ عدة شهور طالبَ أبحاثٍ في جامعة أكسفورد، كانت كل من المواد الدراسية (وأغلبها أمريكي) والتشريعات (اسكندينافية في الأساس) نادرة على أرض الواقع، وكان الجيل الأول من قوانين حماية البيانات ما يزال في مراحله الأولية، ومنذ تلك الأيام البريئة، تغير الوضع بالطبع تغيرات مذهلة، ووصف هذه الظاهرة بالانفجار لا يعد من قبيل المبالغة، وقد بدأت انطلاقتي في هذا المجال كمحاولة أكاديمية لتوضيح فكرة الخصوصية المحيرة للغاية، ولكن الأبعاد التطبيقية لهذا الحق المتزايد في الضعف لم تكن يومًا بعيدة للغاية عن تفكيري، وما كان لها أن تكون كذلك؛ ففجر عصر المعلومات كان يلوح في الأفق، وقد تسبب ميلاد الكون الثنائي بكل تجسيداته الرقمية المتنوعة، إلى جانب أجهزة المراقبة الإلكترونية الجديدة والمتطورة، وظهور الصحافة العدوانية المتهورة في جعل أي رضا ذاتي عن أمن المعلومات الشخصية مجرد سذاجة، علاوة على ذلك، أسعدني الحظ بأن أكون عضوًا بعدد من لجان الإصلاح القانوني واللجان الأخرى المخصصة لتسليط الضوء على الطبيعة المتغيرة للخصوصية، وصياغة معايير وإجراءات يمكن من خلالها حماية تلك الخصوصية، وقد كان للخبرة التي اكتسبتُها من هذه الفرص تأثير شديد على فهمي للخصوصية وحماية البيانات وحكمي عليهما، وإنني ممتن للغاية لأعضاء اللجنة الفرعية لقوانين الخصوصية المنبثقة عن لجنة الإصلاح القانوني بهونج كونج الذين تعلمت منهم الكثير.



بيانات الكتاب


الأسم : الخصوصية
المؤلف :  ريموند واكس
المترجم : ياسر حسن
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م



نشرتُ في أوائل تسعينيات القرن العشرين — في كتاب «العِرْق والثقافة والاختلاف» — نقدًا لكل من التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية كما كانتا تمارسان آنذاك في المملكة المتحدة، لا سيما في مجال التعليم. وأشرتُ إلى أن أنصار التعددية الثقافية ينظرون إلى الثقافات العرقية نظرة تبسيطية على أنها متجانسة وذات خصائص ثابتة وأساسية وجوهرية، ورأوا أن المجتمعات متعددة الثقافات هي «آنية سَلطة» تحتوي على ثقافات عرقية منفصلة لا تمس إحداها الأخريات. وقد عملوا أيضًا بموجب تعريفات إشكالية للعنصرية باعتبارها تحيُّزًا غير عقلاني يمكن القضاء عليه من خلال التثقيف عن الثقافات «الأخرى» حسبما تُعرِّفها خصائص سطحية مثل
فنون الطهي والأزياء. إلا أن مناهضي العنصرية — الذين أشاروا صوابًا إلى أن التثقيف عن الثقافات الأخرى لا يتطرَّق إلى معالجة العنصرية المتأصلة لدى ثقافة الأغلبية — نزعوا إلى العمل بموجب نظرة اختزالية للعنصرية باعتبارها نتاج أوجه التفاوت الطبقي، وباعتبارها — مثلما رأى أنصار التعددية الثقافية — نتاج نوع من «الوعي الزائف».
لكن من الناحية العملية، كان البساط في سبيله إلى أن يُسحَب على نحو هائل من تحت أقدام أنصار كل من التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية على يد حكومة السيدة تاتشر، وذلك بإلغاء مجلس لندن الكبرى عام ۱۹٨٦، الذي كان قد استهلَّ بعض سياسات التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية في مجال التعليم وغيره من المجالات، إضافةً إلى ما صاحب ذلك من سخرية بعض وسائل الإعلام من هذه الأهداف. وفي تلك الأثناء، كانت ردة فعل عنيفة قد نشأت بالفعل في هولندا ضد صيغتها الخاصة من التعددية الثقافية، في حين ظل الفرنسيون — بالتزامهم بالجمهورية والعلمانية — يديرون ظهورهم رسميًّا لما اعتبروه تجاوزات «أنجلو ساكسونية» (أي أنجلو أمريكية) في إطار التجارب التي أُجريَت في ميدانَي التعددية الثقافية والاعتراف العلني بعرقيات وأديان متعددة.
وقد حاولت في هذا الكتاب أن أعلِّق على التعددية الثقافية ليس في بريطانيا فحسب، وإنما أيضًا في هولندا وفرنسا وغيرهما من أنحاء أوروبا حيثما توفِّر ذلك. على الرغم من حدوث تطورات مهمة أيضًا في كندا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وحتى بعض البلدان الآسيوية، فإنني لم أعلق عليها إلا بإيجاز شديد. فهذا الكتاب يركز بالأساس على أوروبا الغربية.
كانت نيتي هي مد الجسور بين مجالين كادا يصيران منفصلين إلى حد بعيد في إطار دراسة التعددية الثقافية: يرتكز الأول على النظرية السياسية، ويتناول قضايا على غرار كيفية التوفيق بين التعددية الثقافية — بتأكيدها على الهويات الجماعية — والدور الرئيسي الذي تضطلع به الحقوق الفردية في إطار الليبرالية التي تمثِّل عماد دساتير الدول القومية الغربية. ويقع الآخر في مجال العلوم الاجتماعية ودراسات السياسات، ويركِّز على طبيعة الانتماءات العرقية وغيرها من انتماءات الجماعات الموجودة على أرض الواقع، وعلى السمة الفعلية المميِّزة للتفاعلات القائمة بين الجماعات العرقية، ومجموعة السياسات التي طُوِّرَت بهدف استيعاب التنوع الثقافي المتنامي لدى المجتمعات الغربية وإدارته.
على أرض الواقع، يتداخل المجالان؛ فالسياسات لا بد لها من أن تولي القوانين الاعتبار الواجب؛ على سبيل المثال القوانين المعنية بحرية التعبير، التي تكرِّس الأفكار المتعلقة بالحرية الفردية. وكثيرًا ما كانت التوترات والصراعات القائمة بين مبادئ حرية التعبير من ناحية والهويات الجماعية وحساسياتها من ناحية أخرى تتحول إلى مناطق ملتهبة بحق، كما في الجدل الذي ثار بشأن سلمان رشدي لدى نشر كتابه «آيات شيطانية»، وفي اغتيال المخرج ثيو فان جوخ في هولندا، وفي نشر الرسوم الكرتونية الدنماركية للنبي محمد. إلا أن قِصَر هذا الكتاب فرض قيودًا صارمة؛ فقد تعيَّن حذف فصل كان يتناول عمل براين باري وويل كيمليكا وبيكو باريك وتشارلز تايلور، وهم من أبرز الفلاسفة السياسيين الذين عالجوا هذه القضايا، لكنني تناولت بعض القضايا ذات الصلة حول التوفيق بين الحريات الفردية والاعتراف بالهويات الجماعية في فصول عدة من هذا الكتاب.
سأحصر نفسي حاليًّا في نقطتين رئيسيتين؛ أولًا: كان ثمة سوء فهم كبير متعلِّق بالتناقض المفترض بين حقوق الجماعات وحقوق الأفراد. على سبيل المثال، الاستثناءات التي تسمح للسيخ بارتداء العمامات بدلًا من الخوذات الواقية ليست ضربًا من ضروب المعاملة الخاصة التي تتيح لحقوق الجماعات أن تنتصر على حقوق الأفراد، بل إن الحق في ارتداء العمامات بدلًا من الخوذات الواقية يمارسه الأفراد بصفتهم أفرادًا، ولا يحق للجماعة ككل أن تجبر أي فرد سيخي على ارتداء العمامة؛ فالجماعة لم تُعطَ حقوقًا تميزها على أفرادها. وثانيًا: كما يتضح من اختياري للعبارات المقتبسَة التي استهللت بها هذه المقدمة، أرى أن ما يُفترَض أن يكون ممارسات ثقافية تقليدية لا يجوز أن يُسمَح له بإلغاء اعتبارات حقوق الإنسان الأساسية وقدرة أعضاء أي جماعة عرقية على الانشقاق عن التقاليد الثقافية المفترَضة لجماعاتهم العرقية. وتتصدَّر هذه القضية على نحو خاص تناولي لقضية النوع والتعددية الثقافية في الفصل الثاني. ويتبع ذلك أنه لا مجال للنسبية الثقافية مكتملة الأركان في إطار التعددية الثقافية، والواقع أن أي تمعُّن في كتابات أنصار التعددية الثقافية سوف يكشف أنه ما من أحد منهم مدان بالنسبية الثقافية الشاملة التي كثيرًا ما يُتهمون بها.
لا ريب أن التعددية الثقافية حظيت بدعاية سلبية في السنوات الأخيرة — على أقل تقدير — وقد امتدت الآن أذرع الهجمات التي شُنَّت عليها بدايةً من ثمانينيات القرن العشرين في بريطانيا وتسعينيات القرن العشرين في هولندا إلى جميع أنحاء أوروبا الغربية. وتعرِّف الفصول المتعددة لهذا الكتاب المعنى الفعلي للتعددية الثقافية، وتقيِّم الشكاوى المقدَّمَة ضدها مقابل الأدلة المتاحة. وقد توصَّلتُ إلى أن أغلب الاتهامات الموجَّهة إلى التعددية الثقافية كما تُعرض في النقاشات العامة إما مضلَّلة أو مبالَغ فيها حينما توضَع في مواجهة الأدلة المستمَدَّة من الأبحاث التي يجريها علماء الاجتماع وتلك التي تُجرى لأغراض التحقيقات الحكومية.



بيانات الكتاب


الأسم : التعددية الثقافية
المؤلف :  علي راتانسي
المترجم : لبنى عماد تركي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م



نحن الشعوب: وعد ‎الأمم المتحدة

«نحن شعوب الأمم المتحدة.» بهذه الكلمات يبدأ ميثاق الأمم المتحدة. ثم يسرد الميثاق بعد هذا أربعة أهداف رئيسية للمنظمة الدولية؛ أولًا: أن الأمم المتحدة آلت على نفسها حفظ السلام والأمن: «أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب.» ثانيًا: «أن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان.» ثالثًا: أكدت الأمم المتحدة على احترام القانون الدولي. ورابعًا: تعهدت المنظمة الوليدة ﺑ «أن ندفع
بالرقي الاجتماعي قدمًا، وأن نرفع مستوى الحياة». وفي صيف عام ١٩٤٥، قطعت الدول المؤسِّسة للأمم المتحدة على نفسها عهدًا بأن تجعل العالم مكانًا أفضل.
هل استطاعت الأمم المتحدة تحقيق كل هذه الأهداف النبيلة، أو بعضها، أو أيها، على امتداد أكثر من ستة عقود؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي نتعامل معه في هذا الكتاب. ومن ثم، سيقيم الكتاب نجاحات الأمم المتحدة وإخفاقاتها كحارس للسلم والأمن الدوليين، وراعٍ لحقوق الإنسان، وحامٍ للقانون الدولي، ومهندس لعملية التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وأثناء ذلك، سيسبر الكتاب أغوار هيكل الأمم المتحدة وعملياتها في أنحاء العالم.
ليست هذه مهمة يسيرة؛ إذ ظلت الأمم المتحدة على مدار تاريخها مؤسسة مثيرة للجدل. لقد مرت المنظمة الدولية الوحيدة العالمية بحق — التي يُجِلُّها البعض ويلعنها البعض الآخر — برحلة وعرة؛ فقد فازت بجائزة نوبل للسلام وغيرها من الجوائز لإنقاذها حياةَ البشر وتخفيف معاناتهم، لكنها كانت أيضًا هدفًا مفضلًا للسياسيين الذين يشككون في أن الأمم المتحدة تحاول أن تكون حكومة عالمية، أو يزعمون هذا كي يكسبوا قلوب مجموعات بعينها من الناخبين، لكن آخرين — أمثال هنري كابوت لودج الابن، سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة من عام ١٩٥٣ إلى ١٩٦٠ — يتبنَّوْن نظرة أكثر اعتدالًا؛ إذ يقرون بمَوَاطن القصور المتأصِّلة بالمنظمة التي تمثل — نظريًّا على الأقل — مصالح العالم أجمع. وقد لخص لودج هذا الرأي في عام ١٩٥٤ بقوله: «نشأت هذه المنظمة لتمنعك من الذهاب للجحيم، لا لتأخذك إلى الجنة.»2
في الواقع، إن كان من فكرة رئيسية تهيمن على هذا الكتاب فهي الحقيقة البسيطة القائلة إن أعظم التحديات التي جابهتها الأمم المتحدة هي الفجوة شديدة الاتساع بين طموحاتها وقدراتها، ويمكن لنظرة سريعة على الجوانب الأساسية لأنشطة الأمم المتحدة أن تؤكد هذا.
أولًا: تعهدت الدول المؤسِّسة للأمم المتحدة بجعل العالم أكثر أمنًا. ولتجنب المجازر التي سببتها الحرب العالمية الثانية أنشأت هذه الدول هيكلًا وأدوات مصممة لمواجهة التهديدات المحيقة بالأمن الدولي، وأوضح مثال على هذا تمثَّل في منح مجلس الأمن سلطة غير محدودة تقريبًا حين يتعلق الأمر بانتهاكات السلام. من المفترض أن تكون قرارات المجلس ملزمة لجميع الدول الأعضاء، وقد عُهد للجنة الأركان العسكرية التابعة له بالتخطيط للعمليات العسكرية‎، على أن تملك تحت تصرفها قوة جوية جاهزة للنشر الفوري. وبدا أن الدول المؤسِّسة قد عقدت العزم على ألا يقف العالم مكتوف الأيدي ثانية وهو يشاهد الدول المعتدية تنتهك الحدود والاتفاقات الدولية.
كان التصميم معيبًا؛ فلجنة الأركان العسكرية لم تضع تصورًا لقوتها‎ الجوية أو قواعدها؛ ولهذا لم يكن بالإمكان بدء العمليات العسكرية التابعة للأمم المتحدة بسرعة، بل في الواقع لم يكن من المفترض أن تملك الأمم المتحدة تسليحًا عسكريًّا خاصًّا بها. أيضًا احتوى ميثاق الأمم المتحدة في صلبه على أسباب عجز مجلس الأمن: فمن خلال منح حق النقض (الفيتو) لخمس دول (الصين وفرنسا وبريطانيا العظمى والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة)، مكَّن الميثاق هذه المجموعة المختارة من منع أي فعل تراه مناقضًا لمصالحها الوطنية؛ ونتيجة لذلك، قد تكون الأمم المتحدة لعبت دورًا إيجابيًّا في منع اندلاع حرب عالمية أخرى، لكنها عجزت عن منع نشوب سلسلة من الصراعات الإقليمية أو وقفها (من كوريا وفيتنام وحتى الشرق الأوسط وأفريقيا). فقوات حفظ السلام التي أرسلت إلى مناطق النزاعات في العالم كانت عادة تصل بعد انتهاء أسوأ الأعمال العدائية بوقت طويل. وفي بعض الأحيان — كما هو الحال في إقليم دارفور بالسودان بعد عام ٢٠٠٣ — تأخر وصولها، وكانت عمليات الإبادة الجماعية دائرة.
المشكلة الأساسية التي تعانيها الأمم المتحدة كمراقب للأمن الدولي كانت — ولا تزال — بسيطة: كيفية التعامل مع الصراعات — سواء بين الدول أو داخل الدولة نفسها — دون المساس بالسيادة القومية للدول الأعضاء بها. إنه لغز يستمر في التأثير على وظائف الأمن الدولي التي تقوم بها الأمم المتحدة، فلا يزال السلام ينتظر أن يسود.
كان الهدف الثاني للأمم المتحدة هو تسليط الضوء على أهمية حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي. ولتحقيق هذا الهدف، عُقدت المعاهدات وصدرت الإعلانات وصيغت الأدوات القانونية المتعددة. أبرز هذه الوثائق لا شك كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام ١٩٤٨. وأضيفت وثيقتان أخريان إلى قانون حقوق الإنسان في الستينيات، وهو ما أنتج لنا الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. وبحلول القرن الحادي والعشرين، كان مجلس حقوق الإنسان والمفوضية السامية لحقوق الإنسان وغيرهما من الهيئات تبلِّغ — في نشاط — عن أي انتهاكات لحقوق الإنسان في العالم، وكانت المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الخاصة، في لاهاي، تحاكم من ارتكبوا أشنع انتهاكات حقوق الإنسان.



بيانات الكتاب


الأسم : الأمم المتحدة
المؤلف :  يوسي إم هانيماكي
المترجم : محمد فتحي خضر
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م




في بريطانيا إبان العصر الفيكتوري، كان كل طالب يعرف أن السير إسحاق نيوتن نابغة رياضية وعلمية منقطعة النظير، وكان باستطاعة غالبيتهم أن يقدم بيانًا مبسطًا لأهم اكتشافاته. ففي علم البصريات، اكتشف نيوتن أن الضوء الأبيض لم يكن عنصرًا أساسيًّا في الطبيعة، بل يتألف من أشعة أولية ممتزجة معًا، وكانت الأجسام تبدو بلون معين لأنها تميل لعكس أو امتصاص ألوان بعينها دون
غيرها. وفي مجال الرياضيات، اكتشف نيوتن نظرية ذات الحدين لفك مجموع متغيرين مرفوع لأي قوة، وكذلك القوانين الأساسية لحساب التفاضل والتكامل. فتعامل ذلك مع معدل التغيير الذي يطرأ على أي متغير (شكل منحنى أو سرعة جسم متحرك) في أي لحظة، وكذلك أتاح تقنيات لقياس المساحات والأحجام أسفل المنحنيات (وغيرها من الأشياء الأخرى). وقد استغرق عمله في كل من مجالي الرياضيات والبصريات عقودًا عديدة ليحوز القبول التام من جانب معاصريه، ويعود ذلك فيما يتعلق بالمجال الأول إلى أن عمله لم يعرض إلا على مجموعة محدودة من العلماء المعاصرين، وبالنسبة للمجال الثاني فيرجع إلى أن كثيرين وجدوا صعوبة في إعادة إنتاج إنجازاته، التي تُعد ثوريَّة للحد الذي يتعذر معه فهمها بسهولة.
أما المجد الذي توج طريقة نيوتن، فقد كان مصدره كتابه الذي ألفه تحت عنوان «المبادئ الرياضية» والصادر عام ١٦٨٧، والذي قدم فيه قوانين الحركة الثلاثة، وذلك المفهوم الرائع الخاص بالجاذبية الكونية، والمتمثل في أن جميع الأجسام الضخمة دائمًا ما تجذب جميع الأجسام الأخرى وفقًا لقانون رياضي. وباستخدام مفاهيم جديدة تمامًا مثل «الكتلة» و«الجذب»، أعلن نيوتن في قوانينه للحركة: (١) أن جميع الأجسام تظل على حالتها من الحركة أو السكون ما لم تتأثر بقوة خارجية، (٢) أن التغيير في حالة جميع الأجسام يتناسب طرديًّا مع القوة التي تسببت في هذا التغيير، وأنه يحدث في اتجاه تلك القوة المؤثرة، (٣) أن لكل فعل رد فعل مساويًا له في المقدار ومضادًّا له في الاتجاه. وقد شكلت دراسة نتائج عمله في هذا المجال الأساس للميكانيكا السماوية خلال القرن الثامن عشر، وأتاحت المجال لظهور فيزياء جديدة — نعتبرها هي الفيزياء الصحيحة — للأرض والسماء (باستثناء تأثيرات النسبية العامة والخاصة). وبذلك، لم يكن من فراغ أن الغالبية العظمى من المتعلمين منحته لقب «مؤسس الفكر».
بخلاف ذلك، عانت نخب بريطانيا في العصر الفيكتوري في التعامل مع جوانب أصعب من حياة نيوتن وأعماله؛ لما كان معروفًا عنه أيضًا أنه خيميائيٌ متفان ومهرطق متطرف. كذلك أظهرت أدلة لا تقبل الجدل أنه انتهج سلوكًا ذميمًا نحو مجموعة من معاصريه. ومنذ ذلك الحين، ظل تفسير شخصيته ومواجهة مشكلة التوفيق بين الجوانب «العقلانية» و«غير العقلانية» من عمله بمنزلة تحد أمام المؤرخين. إضافةً إلى ذلك، أن حقيقة أن الكثير من أوراقه البحثية المهمة لم تصبح متاحة للدراسة والفحص الجاد إلا في سبعينيات القرن العشرين تعني أنه لم يكن من الممكن تكوين صورة متوازنة لأعماله إلا في العقود القليلة الماضية.
وعلى الرغم مما كان معروفًا منذ زمن؛ أن نيوتن كان لديه هذه الاهتمامات الشاذة فيما يبدو — والتي كان يدرك بلا شك أنها أهم من مساعيه الأكثر «احترامًا» — فقد ظلت التراجم الذاتية الحديثة الشهيرة له تظهر تلك العناصر الشاذة وكأنها توصف لأول مرة. غير أن هذه الكتب لم تقدم رؤى جديدة، وكذلك لم تنهل من المواد المذهلة التي أصبحت متاحة عبر الإنترنت في السنوات القليلة الماضية. وتطلق معظم هذه الأعمال أيضًا ادعاءات مبالغًا فيها عن الروابط والصلات بين الجوانب المتعددة لنشاط نيوتن الفكري. وتهدف هذه المقدمة إلى تدارك هذه المشكلات مع الأخذ في الاعتبار المؤلفات العلمية الحديثة، والنسخ التي أُتيحت مؤخرًا عبر الإنترنت من المؤلفات والكتابات. والواقع أن نيوتن الذي يبرز من خلال تلك المصادر أغرب بكثير مما كان يبدو في التراجم الحديثة.

بيانات الكتاب


الأسم : نيوتن
المؤلف : روب أيلف
المترجم : شيماء طه الريدي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 164 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م





بحلول الوقت الذي اختُطف فيه لوثر اختطافًا وديًّا بعد انعقاد مجلس فورمس كان — بسنوات عمره السبع والثلاثين — قد جاوز أواسط العمر، وقد أخذ — دون أن يعِيَ ذلك — يسلك مسارًا مهنيًّا جديدًا إلى جانب منصب الأستاذية الذي شغله، هذا إذا كان مسموحًا له أن يحتفظ به. ملأ لوثر وقته في العشرة شهور التي أمضاها في قلعة فارتبورج (من مايو ١٥٢١ إلى مارس ١٥٢٢) بالدراسة والكتابة والتأمل، مما أقنعه بأن يأخذ على عاتقه مهمة جديدة؛ فلم يَعُدْ راهبًا، وإنما خادمًا تقوده العناية الإلهية لإعادة صورة
أصدق للمسيحية إلى ألمانيا، عوضًا عن مسيحية العصور الوسطى التي بدت له مليئة بالفساد والخرافات. فكيف استطاع ابن مقاول المناجم القادم من بلدة صغيرة في ألمانيا أن يجد مثل هذه الثورية في نفسه؟
وصف لوثر والديه بأنهما من الفقراء، ووصف نفسه بأنه ابن فلاح، لكن هذه الكلمات توحي بانطباع خاطئ عن طفولته. كان والده هانز ابن أحد المزارعين في قرية موهرا الصغيرة، التي لا تبعد بمسافة كبيرة عن بلدة آيزيناخ مسقط رأس والدته مارجريت ليندمان، لكن أقارب مارجريت ليندمان كانوا من أعيان البلدة، ومع أن هانز والدَ لوثر تزوَّج من طبقة اجتماعية رفيعة، إلا أنه شقَّ طريقه في صناعة المناجم ليصبح صاحب مصهر؛ أيْ وكيلًا لشركات النحاس، وهو ما تطلَّب منه استثمار أمواله الخاصة في العمل. وُلِد مارتن لوثر وتوفي في مدينة آيسلبن، لكنه أمضى طفولته في بلدة مانزفيلد الأصغر حجمًا، والتي انتقل إليها والداه عقب مولده بوقت قصير. ازدهرت أعمال هانز وجعلته أحد مواطني البلدة البارزين، وتشير الاكتشافات الحديثة إلى أن أسرة لوثر كان لديها زادٌ كافٍ من الطعام، وعاشت حياة موسرة في منزل كبير، شُيِّد حول فناء ربما لعب فيه مارتن في طفولته بِكُرات زجاجية صغيرة عُثر عليها هناك تعود إلى القرن السادس عشر. نَمَت ثروة هانز والد مارتن وتقلَّصَت مع تذبذب سعر النحاس، لكن مارتن وإخوته — الذين ضمُّوا على الأقل أخًا يُدعَى ياكوب وثلاث أخَوات — لم يعرفوا قطُّ الفقرَ بمعناه الحقيقي، وأصبح ياكوب — الذي جمعت بينه وبين لوثر علاقة وثيقة — صاحب مصهر بدوره، وعاش في منزل الأسرة بعد أن توفي والده.
ربما كان هانز ابن فلاح، لكن مارتن نفسه — على حد أقصى ما بلغه علمنا — أقام في المدينة ولم يجرب قطُّ الحياة الريفية، ورغم أنه شكا فيما بعدُ من أنه تلقَّى تعليمًا سيئًا للغاية، عانَى فيه الأَمَرَّيْن، فإن هذا المستوى التعليمي لم يُعِدَّه للالتحاق بالجامعة وحسب، بل للعمل أيضًا كمدرس وكاتب ومترجم وواعظ. ارتاد لوثر حتى الرابعة عشرة من العمر مدرسة لاتينية في مانزفيلد، لُقِّن فيها قواعد اللغة، وتعلم مبادئ المنطق والخطابة. وفي عام ١٤٩٧ تقريبًا أُرسِل مع صديقه هانز راينيكي إلى مدينة ماجديبورج الكبيرة — مقر إقامة رئيس الأساقفة — حيث يُرجَّح أنهما التحقا بمدرسة كاتدرائية البلدة، وأقام لدى جمعية إخوة الحياة المشتركة، وهي جمعية غير رهبانية، يشبه مقرها الدير، آوت الطلاب ودرَّست لهم في بعض الأحيان. واجهت مدينة ماجديبورج لوثر الشاب القادم من بلدة صغيرة ببيئة حضرية ودينية متشددة، لكننا لا نعرف الكثير عن أثرها فيه، فبعدها بعام أُرسل لوثر إلى مدينة آيزيناخ للالتحاق بمدرسة قريبة من أقارب والدته، وأقام هناك مع هاينز شالبي، وهو أحد مواطني البلدة البارزين وراعٍ لديرها الفرنسيسكاني، وارتاد مع ابن شالبي؛ كاسبار مدرسةَ أبرشية سان جورج، حيث نشأت صداقة وثيقة بينه وبين جون براون، وهو قسٌّ مسنٌّ دعاه لوثر فيما بعدُ إلى قُداسه الأول. غير أن لوثر لم يدرِ بالطبع أنه سيختبئ بعد عشرين عامًا في قلعة فارتبورج المطلة على البلدة.
كانت الخطوة التالية للوثر الطالب النابغة هي الجامعة، فاختار عام ١٥٠١ مدينة إيرفورت، وهي مدينة تجارية تقع على بُعْد ٦٠ ميلًا جنوب مدينة مانزفيلد، والتي كانت مزدهرة في عام ١٣٩٢ بما يكفي لتأسيس جامعة خاصة بها. أقام لوثر لعشر سنوات من الأحدَ عشَرَ عامًا التالية من حياته في إيرفورت، وأمضى هناك أربعة أعوام بالجامعة وستة أعوام بالدير، وقُيِّد شأنه شأن الطلاب المقبلين على الدراسة الجامعية في كلية الفنون الحرة؛ حيث اجتاز اختبار البكالوريا عام ١٥٠٢، لكنه استغرق وقتًا أطول للتأهُّل للتدريس، وتعيَّن عليه دراسة أعمال أرسطو دراسةً مكثَّفة، وأنهى الدراسة محتلًّا الترتيب الثاني على صفٍّ من سبعة عشر طالبًا في أوائل عام ١٥٠٥، وتسلَّم أوسمة المعلمين بالجامعة، وهي بريتة (قلنسوة مربعة الشكل) وخاتم إصبع، وهو ما أهَّله لإلقاء المحاضرات وعقد المناقشات، فضلًا على أنه صار مؤهَّلًا للدراسة في الكليات المهنية، ككليات القانون والطب وعلوم الدين، فعَكَفَ مباشَرةً على خوض المرحلة الأخيرة من تعليمه سيرًا على خطة أبيه، الذي ارتأى أن دراسة القانون هي أفضل الطرق للوصول إلى وظيفة مرموقة آمِنة، لكنه واصل الدراسة لأقلَّ من شهرين، وبعد العودة إلى دراسته من زيارةٍ إلى بلدته في يوليو عام ١٥٠٥، أقلع فجأةً عن دراسة القانون وجمع أصدقاءه — الذين ذُهِلوا من جرَّاء ذلك — لحفل وداع بهيج، والتحق بِدَير أوغسطينيان المجاور.
يبدو أن التقوى كانت دافعًا حاسمًا قاد لوثر إلى هذه النقلة المفاجئة؛ فعندما شارف على الوصول إلى مدينة إيرفورت عند عودته، أفزعته عاصفة عاتية إلى حد أنه أقسم على أن يصبح راهبًا إنْ نجا سالمًا. ولكن لكي يقطع على نفسه هذا العهد الذي قد يغيِّر حياته كلها — حتى في مواجهة الموت — لا بد أن لوثر كان له مآخِذ على الاشتغال بالقانون، وأنه درس احتمال أن يَهَبَ حياته للدِّين بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ أن يهبها للدير. كما أن الدين كان يحيط به في كل مكان عاش فيه وتعلَّم فيه، ولا سيما في مدينة ماجديبورج وآيزيناخ وفي مدينة إيرفورت التي امتلأت بالكنائس والأديرة ومجالس رجال الدين. وكان بمقدوره أن يدرُس علم اللاهوت دون أن يصبح راهبًا، لكنه لم يَسْعَ إلى تغيير مسار دراسته، بل إلى حياة مختلفة

بيانات الكتاب


الأسم : مارتن لوثر
المؤلف : سكوت إتش هندريكس
المترجم : كوثر محمود محمد
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 164 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م




في مرحلة مبكرة من حياتنا يباغت أغلبنا هذا السؤال: «من أين جاء كل شيء؟» قد نتساءل أيضًا، أين كانت ذاتنا الواعية قبل أن نُولد؟ هل يمكنك أن تحدد ذكرياتك الأولى؟ عندما التحقتُ بالمدرسة لأول مرة، كنت أتذكر بوضوح أحداث العامين أو الثلاثة السابقة، لا سيما العطلات الصيفية التي قضيناها على شاطئ البحر، لكن عندما حاولت أن أسترجع الأحداث المبكرة في حياتي، غامت الرؤى متلاشيةً حتى العدم. قيل لي إن سبب هذا هو أنني وُلدت منذ خمس سنوات فحسب، في عام ١٩٤٥. في نفس الوقت، تحدث والداي
عن أحد الحروب، وعن أمور وقعت لهما قبل هذه الحرب، لكن لم يكن لهذا أي مدلول عندي؛ فالعالم الذي عرفته لمَّا يكن موجودًا حينها، وبدا لي أنه بدأ بمولدي، وأنه جاء مُجهزًا بآباء وكبار آخرين. كيف عاشوا «قبل» عالمي الواعي؟
ظل الفراغ الغريب الذي ابتلع كل شيء حتى عام ١٩٤٥ يزعجني، ثم وقع حدث عام ١٩٦٩ منحني منظورًا جديدًا لهذه المشكلة.
كانت أبولو ١٠ تحوم فوق سطح القمر، التي كشفت معجزة الاتصالات عن أنه أرض جرداء مهجورة من الصخور والحصى. كانت صحراء الغبار الرمادي هذه تمتد حتى أفق القمر، الذي أخذ شكلًا منحنيًا قبالة فراغ أسود مرصع بالنجوم المتناثرة؛ تلك الكرات الميتة من الهيدروجين التي تتفجر لينبعث منها الضوء. وسط هذه الصورة القاحلة، إذا بجوهرة زرقاء جميلة ذات سحب بيضاء وقارات خضراء من النباتات، ولأول مرة يشهد البشر ما يعرف ﺑ «شروق الأرض». ثمة مكان واحد على الأقل في الكون توجد به حياة، في صورة مجموعات هائلة من الذرات نُظمت على نحو يجعلها تملك وعيًا ذاتيًّا وقادرة على التحديق في الكون في تعجب.
ماذا لو لم تكن هناك حياة ذكية؟ بأي منطق كان سيوجد أي من هذا لو لم تكن هناك حياة تدركه؟ منذ عشرة مليارات عام كان من الممكن أن يكون الحال على هذا النحو: فراغ ميت يعج بسحب البلازما وكتل قاحلة من الصخور تدور في الفضاء الفسيح. مع أن حقبة «ما قبل الوعي» هذه خلت من الحياة، ولا بد أنها كانت أشبه بامتداد عظيم لنظرتي الخاصة عن الكون قبل عام مولدي التي تراقصت فيها الجاذبية دون أن يدري بها أحد، فإن الذرات نفسها التي وُجدت حينها هي نفسها التي نتكون منها نحن اليوم. نُظمت مركبات معقدة من هذه الذرات، التي كانت خاملة في السابق، لخلق ما نطلق عليه الوعي وصارت قادرة على أن تستقبل، من أطراف الكون البعيدة، ضوءًا بدأ رحلته في تلك الأوقات المبكرة الخالية من الحياة. وبمقدورنا في «حاضرنا هذا» أن نستدل على تلك الحقبة الميتة المبكرة، وهو ما يضفي عليها نوعًا من الواقعية. إننا لم نُخلق من العدم، وإنما من «مادة أصلية» أولية؛ من ذرات تكونت منذ مليارات السنين جُمعت لفترة زمنية قصيرة في أجساد البشر.
هذا يقود بدوره إلى سؤالي الأخير: ماذا لو لم يكن هناك حياة أو أرض أو كواكب أو شمس أو نجوم أو ذرات تتمتع بالقدرة على إعادة تنظيم نفسها إلى أشياء مستقبلية؛ ماذا لو كان هناك فراغ وحسب؟ بعد أن أزلت كل شيء من صورتي الذهنية عن الكون حاولت تخيل العدم المتبقي. وعندئذ اكتشفت ما أدركه الفلاسفة على مر العصور: من الصعب جدًّا التفكير في الفراغ. حين كنت طفلًا ساذجًا، لطالما تساءلت أين كان الكون قبل مولدي، والآن أحاول تخيل ماذا كان سيوجد ما لم أوُلد على الإطلاق. «إننا محظوظون لأننا سنموت»، ولن يتمتع العدد اللانهائي من الأشكال الممكنة للحمض النووي بالوعي أبدًا، خلا بضعة مليارات منها وحسب. ما الكون بالنسبة لأولئك الذين لن يولدوا أبدًا أو للأموات؟ كل الثقافات وضعت خرافاتها بشأن الموتى؛ إذ إنه من الصعب جدًّا القبول بأن الوعي يمكن أن يندثر بسهولة عندما تتوقف مضخات الأكسجين عن ضخ الأكسجين إلى المخ، لكن ما الذي يعنيه الوعي لتجميعات الحمض النووي التي لم ولن يكتب لها الوجود أبدًا؟
إن فهم كيفية بزوغ الوعي وموته يماثل في الصعوبة فهم كيفية نشأة شيء ما؛ مادة الكون، من العدم. أكان هناك فعل خلق أم أن شيئًا ما كان موجودًا على الدوام؟ أكان من الممكن حتى أن يوجد عدم إذا لم يكن هناك من يدركه؟ كلما حاولت فهم هذه الألغاز، شعرت أنني إما أقترب من الحقيقة أو أنني على حافة الجنون. مرَّت السنون، وبعدما قضيت حياتي عالمًا يحاول أن يسبر غور الكون، رجعت إلى هذه الأسئلة وقمت برحلة للعثور على الإجابات الموجودة. كانت النتيجة هي هذا الكتاب الصغير. أشعر بالإطراء حين أعرف أنني حين أوجه مثل هذه الأسئلة، فأنا بهذا أنضم إلى صحبة طيبة؛ ذلك لأن هذه الأسئلة طرحها بشكل أو بآخر بعض من أعظم الفلاسفة على مر العصور. علاوة على ذلك، لم يتفق الجميع على إجابة بعينها. من وقت لآخر، حين تسود إحدى الفلسفات على ما سواها، كانت الحكمة المكتسبة تتطور هي الأخرى. أيمكن أن يوجد خواء؛ حالة من العدم؟ يبدو أن إجابات هذه الأسئلة، شأن الأسئلة المتعلقة بوجود إله من عدمه، تعتمد على تعريفك لماهية العدم.
عندما تناول فلاسفة الإغريق القدامى هذه الأسئلة من خلال قوة المنطق، خرجوا علينا بآراء متعارضة. زعم أرسطو أنه لا يمكن أن يوجد مكان فارغ، بل ارتقى هذا الرأي إلى مقام مبدأ مفاده أن «الطبيعة تمقت الخواء». ما الذي يعنيه هذا؟ وما سبب سيادة هذا الظن لألفي عام؟ هذه من أوائل الأسئلة التي سأتناولها. في القرن السابع عشر، ومع بزوغ المنهج التجريبي، أدرك تلاميذ جاليليو أن هذا الاعتقاد يرجع إلى سوء تأويل للظواهر؛ إذ إن مقت الخواء ذلك إنما ينجم عن وجود الغلاف الجوي الذي يزن عشرة أطنان ويضغط على كل متر مربع من كل شيء موجود على الأرض، وهو ما يتسبب في إقحام الهواء في كل ثقب متاح.
كما سنرى لاحقًا، من الممكن إزالة الهواء من الأوعية وصنع فراغ. كان أرسطو مخطئًا. على الأقل هذه هي النتيجة لو لم يكن هناك سوى الهواء؛ فبإزالة الهواء سيُزال كل شيء. ومع تقدم العلم، واتساع مداركنا وحواسنا بواسطة وسائل أكثر تعقيدًا، بات جليًّا أنه ينبغي إزالة ما هو أكثر بكثير من الهواء وحسب للحصول على فراغ حقيقي. يرى العلم الحديث أنه يستحيل من حيث المبدأ صنع فراغ تام، لذا لعل أرسطو لم يكن مخطئًا في نهاية المطاف. ومع ذلك، لا يمانع العلماء المعاصرون في استخدام مفهوم الفراغ، ومن أحد تفاسير الفيزياء الحديثة أنها تصب جمَّ تركيزها على محاولة فهم طبيعة الفراغ، الزماني والمكاني، في أبعادهما المختلفة.

بيانات الكتاب


الأسم : العدم
المؤلف : فرانك كلوس
المترجم : فايقة جرجس حنا
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 164 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget