القومية لــ ستيفن جروزبي



تظهر الأمم بمرور الزمن نتيجةً للعديد من العمليات التاريخية؛ لذا سيكون من غير المُجْدي أن نحاول تعيين لحظةٍ محدَّدةٍ لظهور أيِّ أُمَّة إلى الوجود كما لو كانت سلعة مصنَّعة من تصميم أحد المهندسين. دعونا نبحث أسباب هذا. الأمم كافةً لها أسلافٌ تاريخية؛ سواء أكانت قبائلَ أو دولَ مدنٍ أو ممالكَ. وتلك
المجتمعات الأسبق تاريخيًّا هي عناصر مهمة في تشكيل الأمم. على سبيل المثال، نشأت الأمة الإنجليزية من مجتمعات الساكسون والأنجل والنورمان السابقة لها تاريخيًّا، غير أن هذه الأسلاف التاريخية ليست قطُّ حقائق مجردة؛ لأن أساس وجود الأمة هو الذكريات التي يتشاركها جميع أفراد الأمة عن ماضي أمتهم، وعن تلك المجتمعات السابقة.

على سبيل المثال، ما كانت أمة بني إسرائيل القدامى لِتُوجَد ما لم تكن هناك ذكريات عن الماضي؛ مثل ذكريات الخروج من مصر، والنبي موسى وثعبانه البرونزي (الذي حُفِظ في معبد القدس حتى عهد الملك حزقيا (٧١٤–٦٨٦ قبل الميلاد))، وذكريات حُكم النبي داود والنبي سليمان. وما كانت الأمة الإنجليزية لتُوجَد لو لم تكن هناك ذكريات عن الملك ألفريد الساكسوني (٨٤٩–٨٩٩ ميلاديًّا) و«القانون القديم الصالح». وبالمثل، كانت الذكريات عن أسرة البياست ومملكتهم (من القرن العاشر حتى القرن الثاني عشر الميلادي) من المكوِّنات الأساسية وراء ظهور الأمة البولندية، وكذلك كانت الذكريات عن مملكة ياماتو (من القرن الرابع حتى السابع الميلادي) وعبادتهم لإلهة الشمس «أماتيراسو» في مدينة إيسه، من مكوِّنات الأمة اليابانية.



قد لا تكون الأحداثُ التي تصفها هذه الذكريات دقيقةً في الواقع؛ ومثال على ذلك اللعناتُ العَشْر الواردة في رواية بني إسرائيل عن خروجهم من مصر، أو أن الإمبراطور الياباني هو سليل أماتيراسو. ولكلِّ أمة فَهْمُها الخاص لماضيها المميز، وهو فَهْمٌ يُنقل من خلال الحكايات والخرافات والتاريخ. وسواء أكانت تلك الذكريات صحيحةً من الناحية التاريخية أم لم تكن كذلك، فإنها تُسهم في فهم الحاضر الذي يميز أمة عن أخرى. هذا العنصر الزمني — عندما يشكِّل فهم الماضي جزءًا من الحاضر — هو طابع يميِّز الأمم ويسمَّى «العمق الزمني».
هذه الذكريات تشكِّل أيضًا جزءًا من مفهوم المرء عن نفسه. فمع تطوُّر عقل الفرد في إطار سياقات عديدة، مثل الأسرة أو المؤسسات التعليمية المختلفة، فإنه يبحث عن تلك العادات والتقاليد العديدة المتقلِّبة «المتاحة» أمامه. فمثلًا، يتعلَّم الطفل أن يتكلَّم لغةَ أُمَّتِهِ ويتعلَّم ما يعنيه انتماؤه لهذه الأمة وفقًا لما تمليه عاداتها وقوانينها. تندمج هذه العادات في فهم الفرد لذاته، وعندما تصبح تلك العادات التي تشكِّل جزءًا من مفهوم المرء عن ذاته مشتركةً بين أفراد آخرين باعتبارها جزءًا من مفهومهم عن ذاتهم، يصبح الفرد مرتبِطًا بهؤلاء الآخرين، ومدرِكًا لذلك الارتباط، وتصبح العلاقة نفسها — مثل العيش في نفس المنطقة الجغرافية أو التحدُّث بنفس اللغة — هي المقصودة بمصطلح «الوعي الجمعي». وهذا المصطلح لا يعني بأي حالٍ وجودَ عقلٍ جماعي أو مزيجٍ من الغرائز البيولوجية، وكأن البشر عبارةٌ عن مستعمرةٍ من النمل، وإنما هو يشير إلى علاقةٍ اجتماعيَّةٍ لكلِّ فردٍ من مجموعةٍ من الأفراد نتجتْ عن اشتراك هؤلاء الأفراد في نفس التقاليد.

عندما يشترك هؤلاء الأفراد في نفس التقاليد، ويعتبرون أنفسهم أيضًا مختلفين عمَّن لا يشتركون معهم فيها، يصبح هناك معتقَدٌ مشترك محدد ذاتيًّا، وهو ما يُسمَّى «وعيًا ذاتيًّا جمعيًّا»؛ أي ثقافة مميزة. يتم تحديد الخصائص أو الصفات التي تُميِّز منظومة التقاليد عن أي منظومة أخرى؛ وتلك الخصائص هي حدود العلاقة الاجتماعية التي تسمح لنا بأن نُميِّز «نحن» عن «هم». وبالعودة إلى أمثلتنا، فإن أولئك الذين يقبلون تقليد خروج بني إسرائيل من مصر — وبقبولهم هذا يشتركون فيه — يميزون أنفسهم عن غيرهم ممن لا يفعلون هذا. وأولئك الذين يعبدون إلهة الشمس اليابانية أماتيراسو يميزون أنفسهم عمَّن لا يفعلون ذلك. وأولئك الذين يتكلَّمون لغةً معيَّنة يعتبرون أنفسهم مختلفين عمن يتكلَّمون لغةً مختلفةً. «الأمة إذن هي علاقة اجتماعية لها وعيٌ ذاتيٌّ جمعيٌّ.»

بيانات الكتاب

الأسم : القومية
المؤلف :  ستيفن جروزبي
المترجم : محمد إبراهيم الجندية
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 132 صفحة
الحجم : 10 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١5م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget