الذاكرة لــ جوناثان كيه فوستر



تحسين الذاكرة

هناك العديد من الحلقات الدراسية والدورات التدريبية والكتب المتاحة في الأسواق التجارية تدَّعي قدرتها على تحسين ذاكرتنا بشكل ملحوظ. سيستعرض هذا الفصل الدليل الموضوعي والعلمي الثابت على تقنيات قد تكون قادرة أو غير قادرة على تحسين الفاعلية الوظيفية لذاكرتنا. وسيكون التركيز
منصبًّا على تقنيات مثل مُعينات الذاكرة التي قد تحسِّن فاعلية «برامج» الذاكرة، ولكن ستتم الإشارة أيضًا إلى المعالجة المستقبلية المحتملة ﻟ «المكونات» التي تشكِّل الذاكرة، والتي بواسطتها سيكون من المحتمل استخدام العقاقير و/أو الأجهزة التعويضية و/أو الزراعات العصبية في المستقبل لمحاولة تصحيح مشكلات الذاكرة الناجمة عن الإصابة الدماغية. كما سنستعرض أقوياء الذاكرة في هذا الفصل (وهم الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات ذاكرة قوية)، خصوصًا شخص مُشار إليه ﺑ «ش». قد يتمنى الناس غالبًا «ذاكرة مثالية»، ولكن قصة «ش» توضح أن القدرة على النسيان لها فوائد ملحوظة.

(١) هل تستطيع تحسين ذاكرتك؟

(١-١) المقومات «البدنية»

في الوقت الحالي، لا يستطيع أي منا أن يحسِّن بحقٍّ الآليةَ التي تتشكل منها الذاكرة، على الأقل من حيث المقومات البيولوجية التي تنطوي عليها؛ فمن الناحية العلمية، لا توجد حاليًّا طريقة موثوق بها لتحسين الأنظمة العصبية المشكِّلة للذاكرة بشكل منهجي (رغم أنه — بالطبع — من السهل نسبيًّا تدمير هذه الأنظمة عن طريق إصابات الرأس، والمشروبات الكحولية، وصور أخرى من الإيذاء الجسدي والكيميائي).

هناك ما يدل على أن بعض العوامل (مثل المنبهات، كالنيكوتين أو الكافيين) تستطيع تعزيز ذاكرتنا، غالبًا عن طريق تحسين انتباهنا (ومن ثم تحسين تشفيرنا لمواد الذاكرة). ومع هذا، لا تُلاحظ آثار هذه المنبهات على نحو يمكن التعويل عليه إلا عندما نكون مجهدين ونظامنا المعرفي مهددًا دونها. ولو جعلتنا هذه المنبهات يقظين «أكثر من اللازم»، فستكون لها تبعات سلبية. كما كانت هناك ادعاءات بوجود «منشطات ذهنية» معينة وعوامل كيميائية عصبية أخرى يمكن أن تحسِّن أداء المكونات العصبية التي تشكِّل الذاكرة. ويبدو أن هذه العوامل عادةً ما تعمل عن طريق تعزيز التواصل أو النقل الكيميائي بين خلايا المخ. ولكن — مجددًا — ليست هذه العناصر مفيدة دائمًا بحق إلا لبعض الأفراد المصابين بخلل في الذاكرة نتيجة — مثلًا — اعتلال أو مرض دماغي (مثل الخرف). وعلى العكس من ذلك، ففي حالة الأفراد الأصحاء (حيث يبدو أن المخ يؤدي عمله أكثر أو أقل من قدرته القصوى)، فاستخدام مثل هذه العوامل الكيميائية لا يحسِّن فعلًا الأداء فوق هذا المستوى «الأقصى». ويمكن أن نورد تشبيهًا بسيطًا نسبيًّا من خلال محرك السيارة: فلو كنت تملك بالفعل زيتًا كافيًا في حوض الزيت لتزييت المحرك بكفاءة، إذن فإضافة المزيد من الزيت لن يحسن بالضرورة الفاعلية الوظيفية للمحرك ونقل الحركة.

قد يكون من الممكن تحسين «المكونات العصبية» التي تشكِّل الذاكرة في المستقبل؛ ربما (١) عن طريق المعالجة الجينية والعصبية وتقنيات زراعة الأعضاء، أو (٢) عن طريق الجمع بين المكونات المعتمدة على الكربون وتلك المعتمدة على السليكون. وفيما سبق ترتبط الطريقة (١) بتعزيز الركيزة الدماغية فرضيًّا، في حين ترتبط (٢) باستخدام الأجهزة الاصطناعية التعويضية. وكانت هناك بالفعل محاولات لإجراء كلتا العمليتين على حيوانات التجارب. مع هذا، تبقى هذه التقنيات المقترحة مثيرة للجدل؛ وبالتالي في الوقت الحالي، يبدو أننا نستطيع فعلًا العمل فقط مع المكونات العصبية المتاحة لنا حاليًّا داخل رءوسنا، ومحاولة التأكد من أن «البرامج» التي تدير هذه الأنظمة تعمل على النحو الأمثل. كيف نفعل ذلك؟

(١-٢) البرامج

ما الذي يعتبر «ممارسة مثلى» لتذكر المزيد؟

عندما كان إيبنجهاوس يحفظ مقاطعه عديمة المعنى، اكتشف وجود علاقة مباشرة بين عدد محاولات الحفظ وكم المعلومات المخزنة (انظر الفصل الأول). استخلص إيبنجهاوس أن الكم الذي تم حفظه كان متناسبًا مع الوقت المستغرق في الحفظ: ففي ظل نفس الظروف، لو ضاعفت حجم الوقت المستغرق في الحفظ فستضاعف كم المعلومات المخزنة. أصبح هذا معروفًا ﺑ «فرضية الوقت الكلي»، التي هي العلاقة الرئيسية التي تشكِّل كل الدراسات حول الحفظ. مع هذا، فقد رأينا بالفعل أن الأنواع المختلفة من تشفير الذاكرة تنتج مستويات أداء مختلفة (انظر الفصل الثاني). علاوة على ذلك، فقد رأينا في الفصل الأول كيف كانت تقنيات الذاكرة لإيبنجهاوس مصطنعة في بعض النواحي؛ وبالتالي، رغم العلاقة العامة بين كم الممارسة والكم المتذَكر، فهناك طرق أخرى يستطيع المرء بواسطتها الحصول على مردود أفضل للوقت المستغرق في الحفظ:
يبين لنا «تأثير التدريب المتقطع» أنه من الأفضل توزيع محاولات الحفظ على مدار فترة زمنية طويلة، بدلًا من تجميع المحاولات معًا في فترة واحدة؛ إذ إن «القليل الدائم» هو المبدأ الرئيسي هنا؛ وبالتالي فإن حشو الرأس من أجل الاختبار لا يمكن أن يحل محل المراجعة المستمرة الدائمة.
في موضوع وثيق الصلة، فإن «الحفظ بلا أخطاء» هو استراتيجية مرنة يتم فيها اختبار العنصر الجديد في البداية بعد فترة تأجيل قصيرة؛ ثم بعد حفظ العنصر بشكل أفضل، تزداد فترة الممارسة بالتدريج. يكمن الهدف الرئيسي في اختبار كل عنصر خلال الفترة الأطول التي يمكن إعادة إنتاجه فيها بشكل موثوق به. يبدو هذا صالحًا بكفاءة كبيرة كتقنية حفظ. أما النتيجة الفرعية المفيدة في الحفظ بلا أخطاء فهي أن دافع الدارس دائم؛ لأن معدل فشل الذاكرة يبقى عند مستوى منخفض.
لو تذكرت شيئًا من تلقاء نفسك (مثل استرجاع هجاء كلمة)، فإن هذا يميل إلى تقوية الذاكرة بكفاءة أكبر.
يعتبر تركيز الانتباه على ما تتعلمه منهجًا فعالًا. وقد وجَّه المعلمون الفيكتوريون كثيرًا من الاهتمام نحو التكرار والتعلم بالحفظ عن ظهر قلب؛ لكن تكرار المعلومات لا يضمن أن الانتباه موجه إلى المادة (كما رأينا سابقًا في هذا الكتاب، فما من شيء من المرجح أن يدخل إلى الذاكرة الطويلة الأجل ما لم تواظب عليه).


تشفير المعلومات لفظيًّا وبصريًّا معًا (أي خلق صورة بصرية لعنصر لفظي)، وتصميم «خرائط عقلية» غالبًا ما يكونان تقنيات حفظ فعالة. (كتب المؤلف توني بوزان عددًا من الكتب وغيرها من المطبوعات تصف استخدام تقنيات «الخرائط العقلية». رجاء مطالعة قراءات إضافية في نهاية الكتاب.) ويمكن أيضًا أن يكون استخدام أنواع أخرى من التقنيات المُعِينة للذاكرة فعالًا للغاية (انظر الأجزاء اللاحقة في هذا الفصل).
الطريقة التي نعالج بها المعلومات مهمة؛ يسعى الناس إلى إيجاد معنى في المعلومات التي يحاولون تذكرها، ولو غاب المعنى يحاول الناس فرض معناهم الخاص على المادة (انظر الفصل الأول، حيث عرضنا قصة بارتليت «حرب الأشباح»). بالاعتماد على هذه الظاهرة، فالقاعدة العامة هي أن طريقة معالجة المعلومات غالبًا ما تساعد في ربط المادة الجديدة بك وبظروفك الخاصة بأكبر قدر ممكن من الثراء والتفاصيل خلال الوقت المتاح. والسعي إلى فهم المعلومات التي تذاكرها، بدلًا من حفظها بسلبية، عادةً ما يحسِّن الذاكرة. (يبدو أن معالجة المعنى ترتبط في العادة بالمزيد من معرفتنا العامة، وبذلك تشفر المعلومات دلاليًّا بثراء أكبر وتحسن أداء الذاكرة اللاحق.)
إن الحافز لاكتساب معلومة هو عامل آخر مهم، رغم أن آثاره قد تكون غير مباشرة (على سبيل المثال: لو كان الشخص متحمسًا بدرجة كبيرة، فسيؤثر هذا في كم الوقت الذي يقضيه في الاهتمام بالمادة المطلوب استذكارها، وهذا بطبيعة الحال سيحسن كم التعلم الذي يحدث).
توجد علاقة معقدة تعزيزية بالتبادل بين الانتباه والاهتمام والحافز والخبرة والذاكرة؛ وبالتالي كلما زادت معرفتك في مجال معين، زاد اهتمامك به، ومعرفتك واهتمامك سيعزز أحدهما الآخر لتحسين ذاكرتك الخاصة بمادة هذا المجال. مثال لهذا قد يكون باحث الذاكرة الذي يجد بشكل تراكمي أنه من السهل التوصل إلى نتائج جديدة في هذا المجال والاحتفاظ بها، كلما زادت خبرته! ينطبق المبدأ نفسه على العديد من مسارات الحياة؛ فمثلًا: قد يكون مدير المبيعات قادرًا على استيعاب معلومات عن منتجات جديدة، بانيًا على معرفته بالمنتجات التي بيعت في السوق على مدار العقود القليلة الماضية.


بيانات الكتاب

الأسم : الذاكرة
المؤلف :  جوناثان كيه فوستر
المترجم : مروة عبد السلام
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 133 صفحة
الحجم : 17 ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget