الفاشية لــ كيفن باسمور



في نهاية القرن التاسع عشر، كانت غالبية الملاحات في فرنسا المتوسطية غير مزودة بالماكينات الحديثة، وكانت مهمة حمل الملح عملًا شاقًّا مشقة لا تعادلها مشقة. وتحت لهيب شمس أغسطس المحرقة، كان العمال يدفعون عربات يد ثقيلة محملة بالملح على ألواح خشبية إلى قمة ركام من الملح لا يفتأ يزداد ارتفاعًا. ولما كان العمل موسميًّا، كان الأمر خيارًا لا بد منه أمام العمال الفقراء الرُّحل الذين كان العديد منهم مهاجرين إيطاليين؛ نظرًا لما كانت فرنسا تعانيه من نقص في الأيدي العاملة.

في السادس عشر من أغسطس عام ١٨٩٣، في ملاحة إيج مورت، انتشرت شائعات عارية من الصحة بأن ثمة إيطاليين قتلوا ثلاثة عمال فرنسيين، الأمر الذي أثار موجة محمومة من مطاردة المهاجرين عاثري الحظ. في صبيحة اليوم التالي، اقتادت الشرطة أكبر عدد ممكن من الإيطاليين إلى محطة السكك الحديدية. وفي الطريق، تعرَّض العمال المذعورون لاعتداء وحشي من جانب مواطنين فرنسيين، فلقي ستة إيطاليين على الأقل مصرعهم في الطريق، إضافة إلى اثنين آخرين في مكان آخر. وفي نهاية الأمر، سُمح للإيطاليين باللجوء إلى «حصن كونستانس»، وهو أحد حصون القرون الوسطى في إيج مورت. ولا يُعرف إلى الآن عدد الإيطاليين الذين قُتلوا على يد مجهولين في مستنقعات الملح خلال اليومين التاليين.

في تلك الفترة شاع الشجار بين الفرنسيين والمهاجرين، لكنه لم يكن يسفر عادة عن سقوط قتلى. وصارت كراهية العمال الأجانب سمة مميزة لكل الاتجاهات السياسية، ففي إيج مورت رفع رتل من العمال الفرنسيين راية حمراء في وجه نظرائهم الإيطاليين. إلا أن مذبحة إيج مورت كانت غير مسبوقة.

تصادف أن موريس باريه — وهو كاتب يعتبره البعض أحد من أسسوا لفكر الفاشية — كان قد اتخذ إيج مورت مسرحًا لأحداث روايته «حديقة بيرينيس» التي صدرت عام ١٨٩٠، واستخدم «حصن كونستانس» باعتباره رمزًا لشكل جديد من النزعة القومية. رفض باريه وجهة النظر الليبرالية والديمقراطية التي ترى أن الدولة تعبير عن المصالح الرشيدة لأي فرد (ذكر) يقيم في فرنسا؛ فقد رأى أن مفهوم الدولة ينبثق من شعور روحي لا يدركه فهم الإنسان العادي، وهي وجهة نظر نجمت عن الأفكار النفسية التي سادت آنذاك بشأن اللاوعي البشري الجمعي، وعن الحركة الرمزية في الأدب، التي كانت تؤمن بأن الفن يستطيع أن يصل إلى الأساطير الخفية الكامنة وراء السلوك البشري. كانت الدولة من وجهة نظر باريه نتاجًا للتاريخ والتقاليد، ولارتباط طويل الأمد بين الفلاحين الفرنسيين والتراب الوطني. كان بطل روايته يستطيع أن يرى من فوق أعلى قمة «حصن كونستانس» رحابة الريف الفرنسي. ويتواصل مع ماضي فرنسا في القرون الوسطى، ويدرك أنه — كفرد — ليس سوى «ذرة واحدة من تراب هذا الريف الشاسع». لم يكن من الممكن قط أن يكون بطل رواية باريه أحد المهاجرين؛ لأنه كان جزءًا لا يتجزأ من التراب الفرنسي.

قد يبدو أن باريه ليس سوى فنان آخر مهووس بذاته، ومقتنع بأنه يمتلك مفاتيح النفس البشرية. في الواقع ثمة قدر كبير من هذا النوع من الغطرسة في أعمال باريه الأدبية. لكن الأمر لا يقف معه عند هذا الحد، فقد انتُخب باريه عام ١٨٨٩ نائبًا عن مدينة نانسي الواقعة شرق فرنسا في البرلمان بوصفه من أتباع الجنرال بولانجيه، وهو رجل عسكري كان قد وعد بتطهير فرنسا من السياسيين البرلمانيين الفاسدين. علاوة على أن حملة باريه الانتخابية استغلت ما كان يتسم به سكان مدينة نانسي من عداء للسامية. ظل باريه مقتنعًا بأن القومية حلٌّ لجميع المشاكل. وقبل بضعة أسابيع من وقوع مذبحة إيج مورت، كتب سلسلة من المقالات لصحيفة «لو فيجارو» تحت عنوان شابه الغموض هو: «ضد الأجانب». نُشرت هذه المقالات في وقت كانت فيه العلاقات الإيطالية الفرنسية تشهد تدهورًا، وكان يُشتبه في كون المهاجرين الإيطاليين جواسيس. صحيح أن باريه لم يكن مسئولًا مسئولية مباشرة عن أحداث إيج مورت، لكن رواياته وما كتبه من مقالات سياسية جعلت شيوع كراهية الأجانب مرتبطة بالأصول الفكرية الأولى للفاشية. وفي عام ١٨٩٨، وصف باريه نفسه بأنه «اشتراكي قومي».



بيانات الكتاب


الأسم : الفاشية
المؤلف :  كيفن باسمور
المترجم : رحاب صلاح الدين
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 158 صفحة
الحجم : 7ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget