الحرب الباردة لــ روبرت جيه ماكمان



الحرب العالمية الثانية وتدمير النظام القديم

لا مناص من بدء أي نقاشات تخص الحرب الباردة بالحرب العالمية الثانية. فهذه الحرب، التي تعد — وفق أي معيار يمكن تصوره — الصراع الأكثر تدميرًا في تاريخ البشرية، تسببت في مستويات لا نظير لها من الموت والدمار والحرمان والفوضى.

يقول المؤرخ توماس جي باترسون: «إن الدمار الرهيب الذي شهده العالم بين عامي ١٩٣٩ و١٩٤٥ كان شاملًا وعميقًا لدرجة انقلب العالم معها رأسًا على عقب. ليس فقط عالم البشر بعماله ومزارعيه وتجاره وموسريه ومفكريه الأصحاء المنتجين، ليس فقط ذلك العالم الآمن بعائلاته ومجتمعاته المتماسكة، ليس فقط ذلك العالم العسكري بقوات العاصفة التابعة للنازي وطياري الكاميكازي اليابانيين الانتحاريين، بل كل هذا معًا وأكثر.» وبزعزعة «عالم السياسات الراسخة والحكم والتقاليد الموروثة والمؤسسات والتحالفات والولاء والتجارة والطبقات الاجتماعية»، خلقت الحرب ظروفًا جعلت صراع القوى العظمى محتمل الحدوث بدرجة كبيرة، إن لم يكن حتميًّا.

عالم انقلب رأسًا على عقب

تسببت الحرب في مقتل نحو ٦٠ مليون شخص، قرابة ثلثيهم من المدنيين. تكبد الطرف الخاسر للحرب؛ دول المحور المكونة من ألمانيا واليابان وإيطاليا، أكثر من ٣ ملايين قتيل من المدنيين، وتكبد الطرف المنتصر؛ الحلفاء، أكثر من هذا الرقم بكثير: إذ لقي نحو ٣٥ مليون مدني حتفهم جراء الحرب. كانت نسبة الضحايا مذهلة؛ إذ لقي نحو ١٠ إلى ٢٠ بالمائة من إجمالي سكان الاتحاد السوفييتي وبولندا ويوغوسلافيا حتفهم، وتراوحت النسبة بين ٤ و٦ بالمائة من إجمالي سكان ألمانيا وإيطاليا والنمسا والمجر واليابان والصين. ومثلما يستمر عدد ضحايا هذا الصراع العالمي الطاحن في الاستعصاء على أي جهود إحصائية دقيقة، فإن فداحة الخسائر البشرية التي حصدها تظل بالتأكيد مستعصية على الاستيعاب على نحو صادم بعد مرور جيلين على انقضاء الحرب العالمية الثانية، تمامًا كما كانت عقب انتهاء الصراع مباشرة.

بنهاية الحرب عم الخراب أغلب القارة الأوروبية. وقد وصف رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بكلمات قوية ليست بالغريبة عليه، أوروبا ما بعد الحرب بأنها «كومة من الأنقاض، ومقبرة، وأرض خصبة للأوبئة والكراهية». ووفق تعبير المراسل ويليام شيرر فإن برلين كانت «أرض خراب تام، ولا أظن أن دمارًا وقع من قبل قط على مثل هذا النطاق». في الواقع، عانى كثير من أكبر مدن وسط وشرق أوروبا مستويات مقاربة من الدمار؛ إذ سُوي ٩٠ بالمائة من مباني كولونيا ودوسلدورف وهامبورج بالأرض جراء قصف طائرات الحلفاء، وتهدم ٧٠ بالمائة من المباني الموجودة بوسط فيينا. وفي وارسو، كما نقل لنا جون هيرشي، دمر الألمان المدينة «على نحو منهجي، شارعًا شارعًا، وزقاقًا زقاقًا، ومنزلًا منزلًا. ولم يتخلف شيء سوى هياكل خربة». وقد كتب السفير الأمريكي آرثر بليس لين، عند دخوله تلك المدينة التي مزقتها الحرب، في يوليو من عام ١٩٤٥ قائلًا: «كانت رائحة اللحم البشري المحترق المثيرة للغثيان تحذرنا من أننا على وشك دخول مدينة للموتى.» وفي فرنسا، دُمر خُمس مباني الدولة بشكل كليٍّ أو جزئي، وفي اليونان بلغت هذه النسبة الربع. وحتى بريطانيا العظمى التي لم تُحتل فقد عانت ضررًا بالغًا، تسبب فيه بالأساس القصف النازي، في الوقت الذي خسرت فيه ما يقدر بربع ثروتها القومية على امتداد الصراع. كانت خسائر الاتحاد السوفييتي هي الأكبر على الإطلاق؛ إذ لقي ما لا يقل عن ٢٥ مليون شخص حتفهم، فيما شُرد ٢٥ مليونًا آخرون، ودُمر ٦ ملايين مبنى، وسويت أغلب مصانع الدولة ومزارعها المنتجة بالأرض. وعلى امتداد أوروبا، تسببت الحرب في تشريد ٥٠ مليون شخص، أطلق على نحو ١٦ مليونًا منهم، على سبيل التخفيف، لقب «النازحين» من جانب الحلفاء المنتصرين.

كانت الظروف في آسيا بعد انتهاء الحرب على الدرجة عينها من القتامة. تعرضت المدن اليابانية كافة للدمار بفعل القصف الأمريكي المتواصل، ووصلت نسبة المناطق الحضرية المدمرة على نحو تام إلى ٤٠ بالمائة. تعرضت طوكيو، كبرى المدن اليابانية، لقصف عنيف من جانب قوات الحلفاء حتى إن أكثر من نصف مبانيها سُوي بالأرض تمامًا. أما هيروشيما وناجازاكي فقد لقيتا مصيرًا أبشع حين ألقي على المدينتين قنبلتان ذريتان أنهتا الحرب في المحيط الهادي ومحتا المدينتين من الوجود. شرد نحو ٩ ملايين ياباني قبل أن يعلن قادة البلاد الاستسلام. وفي الصين، التي امتدت عليها المعارك لأكثر من عقد، أصاب الخراب منطقة منشوريا الصناعية، وأغرقت مياه الفيضانات مزارع النهر الأصفر. وقُتل نحو أربعة ملايين إندونيسي كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للصراع، وهلك مليون هندي بسبب المجاعة التي سببتها الحرب في عام ١٩٤٣، تبعهم مليونا شخص في الهند الصينية بعدها بعامين. ومع أن السواد الأعظم من جنوب شرق آسيا نجا من أهوال الحرب المباشرة التي حلت باليابان والصين وكثير من جزر المحيط الهادي، فإن مناطق أخرى، كالفلبين وبورما، لم تكن محظوظة بالمثل. فأثناء المراحل الأخيرة من الصراع دُمر ٨٠ بالمائة من مباني العاصمة مانيلا تمامًا أثناء القتال الهمجي. وتسببت معركة مماثلة في وحشيتها في بورما، حسب شهادة القائد الحربي با ماو «في تحويل جزء كبير من البلاد إلى أنقاض».



بيانات الكتاب

الأسم : الحرب الباردة
المؤلف :  روبرت جيه ماكمان
المترجم : محمد فتحي خضر
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 167 صفحة
الحجم : 3ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget