الفلسفة الألمانية لــ أندرو بووي



تشتهر الفلسفة الألمانية عن جدارة أحيانًا بأنها مبهمة ونظرية إلى حدٍّ بعيد، وكثير منها غاب فعليًّا عن عالم الفلسفة الأنجلو-أمريكية في الفترة ما بين ثلاثينيات إلى سبعينيات القرن العشرين، ويرجع هذا الغياب في جزءٍ منه إلى الارتياب في أن هناك تواطؤًا بصورة أو بأخرى بين النازية والفلسفة الألمانية.
ومؤخرًا فحسب تجدَّد الاهتمام الحقيقي بشخصيات مثل جورج فيلهيلم وفريدريش هيجل ومارتن هايدجر في عالم الفلسفة الأنجلو-أمريكية. وترجع زيادة الاهتمام بالفلسفة الألمانية — على نحوٍ لم يقتصر فقط على الفلسفة الأكاديمية — إلى شعور عامٍّ بالأزمة فيما يتعلَّق بتوجُّه العالم المعاصِر. وترتبط هذه الأزمة بالعوامل الأساسية فيما يُسمَّى غالبًا «الحداثة». وتظهر الحداثة في مجتمعات مختلفة في أوقات مختلفة، لكنها بوجه عام تنطوي على ملامح معينة تميِّزها. وتميل المجتمعات السابقة على الحداثة إلى الاعتماد على صورة تقليدية للعالم ترتكز على علم اللاهوت. وعلى الرغم من أن تلك الصورة تنطوي على صراعات تؤدِّي أحيانًا إلى العنف والتمزُّق المجتمعي، فهي لا تزال تشكِّل خلفيةً مستقرةً إلى حدٍّ كبير لكيفية تجاوُب الناس مع العالم. أما الحداثة، في المقابل، فتجبر الثقافات على مواجهة نتائج نشأة العلوم الطبيعية الحديثة وأشكال الإنتاج والتبادل الجديدة. وفي الغالب، فإن التهديد ليقينيَّات النظام القديم له تأثيرات صادمة تجعل الكثيرَ من الناس يتمسكون بمفاهيم هذا النظام الجامدة، فهم يعارضون التغيُّرات التي ينطوي عليها النظام الجديد حتى وهُمْ يستعملون كثيرًا مما تأتي به تلك التغيُّرات. ولا تتأكد إمكانية الانتقال إلى نظام جديد أكثر استقرارًا إلا بعد وقوع أحداث كارثية تجعل من هذا الانتقال ضرورةً لا مفرَّ منها.

قد تنطبق بعض جوانب هذه القصة على بعض أوجه ازدواجية مشاعر العالم الإسلامي المعاصر تجاه الثقافة الغربية الحديثة. إلا أن المنحى المأساوي غالبًا للتاريخ الألماني بَدءًا من القرن السابع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وأخيرًا سقوط جدار برلين عام ١٩٨٩ ربما يكون النموذجَ الأكثر وضوحًا لكيفية حدوث التحول إلى الحداثة. وفيما يتعلَّق بهذا التحول، فإن الفلسفة الألمانية تُفهَم على وجهين؛ فهي مؤشر مُشْكِل للتاريخ الألماني، وهي أيضًا مصدر حيوي لمحاولة معرفة الكيفية التي يمكن للمرء بها أن يتقبَّل عالمًا فيه — على حدِّ تعبير كارل ماركس في كتابه «بيان الحزب الشيوعي» عام ١٨٤٨ — «كلُّ راسخ وصلب يتبخر في الهواء، وكل مقدَّس يُستباح، وفي النهاية يُجبَر البشر على مواجهة ظروفهم في الحياة وعلاقاتهم بعضهم ببعض في تجرد وحيادية.» ومن ثَمَّ، يمكن أن تكون لطبيعة الفلسفة الألمانية المزدوجة قيمتها في معالجة الأزمات في العالم المعاصر. ويتضح من الأحداث الأخيرة أن الحاجة إلى الدِّين لم تختفِ في كثير من الأوساط، على الرغم من أن العلم قد قوَّضَ كثيرًا من الأفكار التي حافظت على الدِّين على نحو تقليدي، كما قوَّضت النزعة الاستهلاكية على نحو متزايد العديدَ من القيم الدينية للمجتمعات التقليدية. وعليه، فإن الصراع بين الاحتياجات التي لبَّاها الدِّين سابقًا والآثار الاجتماعية للعلم الحديث والرأسمالية الحديثة هو مفتاح كثيرٍ من مبادئ الفلسفة الألمانية.



ربما يظن أولئك الذين اعتادوا على اختصاصات «الفلسفة التحليلية» الأنجلو-أمريكية أن تلك المزاعم غير ذات صلة باهتماماتهم. لكنَّ الفلسفة التحليلية — كما يوحي اسمها — تجسيدٌ للحداثة. وأحد مصادر نجاح العلوم الطبيعية الحديثة هو التركيز على تحليل الموضوعات إلى عناصرها المكوِّنة، وصياغة القوانين التي تحكم تلك العناصر. وعلى هذا النحو نفسه، بدأ نهج تحليلي في الفلسفة يسعى إلى عزل عناصر اللغة عن طريق تجريدها من علاقاتها بالظواهر الأخرى ومحاولة إرساء قواعد عامة تحكمها. وكان الهدف هو وضعَ نظرية للحقيقة والمعنى تقوم على بيان كيفية اتصال الكلمات والجمل بأجزاء الواقع التي تشير إليها. ومن ثَمَّ، تعيَّن اشتقاق وصف عامٍّ لآلية عمل اللغة من تحليل عناصرها الخاصة. وكان الهدف هو حلَّ كثير من المشكلات التقليدية للفلسفة عن طريق توضيح كيف أن هذه المشكلات كانت نتيجةَ انعدام الكفاية المنطقية لأشكال اللغة اليومية.

بيانات الكتاب

الأسم : الفلسفة الألمانية
المؤلف :  أندرو بووي
المترجم : محمد عبد الرحمن سلامة
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 133 صفحة
الحجم : 9 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١5م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget