جون لوك لــ جون دَن




وُلِد جون لوك في قرية سومرست في صيف عام ١٦٣٢، ووافَتْه المنية في المنزل الريفي لأصدقائه آل ماشام في أوتس بمدينة إسكس، في أواخر أكتوبر عام ١٧٠٤. وحتى منتصف العقد الرابع من عمره، عاش لوك حياة عادية للغاية، على الأقل كما بَدَا من مظاهرها الخارجية؛ لكن على مدار أكثر من ثلاثة عقود، بدءًا من عام ١٦٦٧، انخرَطَ عن كثب في تقلُّبات السياسة الداخلية الإنجليزية، وإذا به في أواخر
الخمسينيات من عمره يصبح — على حين غرة ولأول مرة — رجلًا ذائع الصيت للغاية. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، كان كلُّ مراسليه تقريبًا يصفونه دون سخرية — مع الليدي ماري كالفرلي — بأنه ببساطة «أعظم رجل في العالم» (مراسلات جون لوك، المجلد الرابع). وعندما حان الوقت أخيرًا ليصير مشهورًا، ذاع صيته بوصفه فيلسوفًا، بدءًا من لحظة نشر مؤلَّفاته، ولا سيَّما عمله الرائع الصادر عام ١٦٨٩ تحت عنوان «مقال في الفهم البشري»، واستمرت هذه الشهرة — دون انقطاع — إلى يومنا هذا.
ببلوغه سن الأربعين، كان لوك قد ابتعد كثيرًا عن أصوله السومرستية؛ ومن المؤكَّد أن الفجوة الاجتماعية بينه وبين سائر أفراد عائلته أخذت تتسع باطرادٍ بعضَ الشيء بقيةَ حياته، لكن في بعض النواحي الجوهرية من حياته، ظلَّ ما اكتسبه خلال تنشئته الأولى (بغضِّ النظر عن النتيجة)، يؤثِّر على نحوٍ محوريٍّ في وجدانه وتوجُّهاته حتى يوم مماته. من النادر أن يتمكَّن المرءُ من تقييم آثار مستمرة كهذه بأي قدر من الثقة، لا سيما في حال رجل أو امرأة من القرن السابع عشر. لكن من مظاهر الغرابة في مزاج لوك إعراضه المُبالَغ فيه عن إلقاء أي ورقة كان قد كتب عليها، ولمَّا انحدرت إلينا — لحُسْن الحظ الشديد — معظمُ الأوراق التي ظلت باقيةً حتى مماته، استطعنا في حقيقة الأمر أن نعرف عنه أكثر مما نعرف عن جميع معاصريه وأسلافه، خلا عددٍ قليل منهم. ويتضح من هذه المخطوطات الهائلة أن لوك اعتنق خلال مرحلة نضجه نمطًا وجدانيًّا بيوريتانيًّا عميقًا، وهو نمط يرسِّخ الإحساس بالواجب ويجعله محور حياة الفرد. لم يكن لوك شخصًا كئيبًا أو بائسًا على الإطلاق، لكنه ألزمَ نفسه — بقدرِ ما ألزَمَ الآخَرين — بمتطلَّبات صارمة للغاية؛ وكان شديد التزمُّت الأخلاقي في ردود أفعاله في حال عدم الوفاء بتلك المتطلبات. ولم يكن ثمة ما هو بيوريتانيٌّ في معظم آرائه الفلسفية التي جعلته خالدَ الذكر حتى يومنا، بل إنَّ كثيرًا منها كان سيشكِّل صدمةً لأيِّ بيوريتاني على قيد الحياة عام ١٦٣٢، إلا أن الهوية الشخصية التي أضفَتْ على فِكره ككلٍّ قدرًا من التكامُل والعُمق الإنساني تعكس ذاتًا بيوريتانية حتى النخاع.


كان كلٌّ من والِد لوك ووالِدته ينحدر من عائلتين تجاريتين بيوريتانيتين؛ فعائلة الأب تعمل في مجال بيع الأقمشة، وعائلة الأم تعمل في مجال الدباغة، ولم يكن دَخْل والِده كمحامٍ وموظَّف في «هيئة قضاة الصلح» بسومرست كبيرًا، وكان يمتلك بالإضافة إلى ذلك قطعةَ أرض؛ لم تكن تكفي في حد ذاتها كي تمكِّنه هو أو ابنه من أن يحيا حياة النبلاء، لكنها كانت كافيةً لأن يمنح الابن نفسه في سنواتٍ لاحقة ذلك اللقبَ المكتوب على صفحات عناوين أعظم أعماله. لم تكن هذه البيئة في حد ذاتها لتضمن لِلوك مستقبلًا واعِدًا، لكن إنْ كان أفراد عائلته من الدرجة الأولى محدودي الاهتمامات وغير طموحين إلى حدٍّ ما في مساعيهم الدنيوية، فقد كان لهم معارف أكثر نفوذًا ونجاحًا، وكان أبرزهم ألكسندر بوفام. حاربَ بوفام — مثل والِد لوك — كضابط في سلاح الفروسية التابع للبرلمان بسومرست في المراحل الأولى من الحرب الأهلية، ثم مضى في طريقه ليصير عضوًا في البرلمان عن منطقة وست كانتري، وشخصيةً بارزة في السياسة الداخلية. وفي عام ١٦٤٧، بوصفه عضوًا في البرلمان عن مدينة باث، كان في منزلةٍ تُمكِّنه من أن يقدِّم لوالِد لوك — الذي كان محاميَه وضابِطًا زميلًا له — الفرصةَ كي يُلحِقَ ابنه الأكبر بمدرسة وستمنستر. وفي السنوات اللاحقة، ظلَّ والِد لوك يأمل في الحصول على رعاية حلفائه السياسيين أصحاب النفوذ، لكن يبدو أن آماله دائمًا ما كانت تخيب، ربما فيما خلا انتقال ابنه المصيري من مدرسة وستمنستر إلى كلية «كنيسة المسيح» بأكسفورد؛ حيث يتجلَّى مجددًا أن وجود راعٍ من ذوي النفوذ أمرٌ لا غنَى عنه. لكن إن كان لوالِد لوك أثر محدود على العالم في مجمله، فمن الواضح أن هذا الرجل الصارم — والساخط إلى حدٍّ ما في المراحل الأخيرة من حياته — قد ترك أثرًا عميقًا في ابنه البارز؛ فقد علَّمه استقلاليةَ الروح وقوةَ الانضباط الذاتي، اللتين ساهمتَا في تشكيل حياة لوك بأكملها.


بيانات الكتاب

الأسم : جون لوك
المؤلف : جون دَن
المترجم :فايقة جرجس حنا
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget