روسو لــ روبرت ووكلر



كان لروسو — وكذا لمونتسكيو وهيوم وسميث وكانط من بين معاصريه — أكبر الأثر في التاريخ الفكري الأوروبي المعاصر، ربما بما يتجاوز أثرَ جميعِ معاصريه. فلم يُساهِم مفكِّر مثلُه من مفكري القرن الثامن عشر بكمٍّ أكبرَ من الكتابات المهمة في نطاق كبير جدًّا من الموضوعات وبأشكال مختلفة من أشكال الكتابة، ولم يُضارِعه أحد في كتابته من حيث الحماس المتَّقد والفصاحة البليغة. ولم يتمكن أحد غيره —
من خلال أعماله وحياته — من أن يثير الخيال العام أو يُربِكه بهذا القدْر من العمق. ويكاد يكون روسو وحده بين أبرز رموز التنوير الذي عرَّضَ التيارات الأساسية للعالم الذي عاش في جنباته إلى أكثر الانتقادات إلهامًا، حتى حين كانت غايته الطعن في مسارها، وعندما اغتنم قادة الثورة الفرنسية لاحقًا الفرصة لمحاولة وضع النظريات السياسية محل التطبيق العملي، فقد كانت بوصلتهم في المقام الأول موجهة تجاه أفكار روسو.
وشأنه شأن غيره من أبرز كتاب عصره، كان لروسو بطبيعة الحال العديد من الاهتمامات بخلاف السياسة. فقد كان مؤلفًا موسيقيًّا محبوبًا جدًّا، ومؤلفًا لقاموس كبير ومهمٍّ للموسيقى، وهو الموضوع الذي ربما استرعى انتباهه أكثر من غيره طيلة حياته. ورغم أن عددًا من أبرز كتاباته المبكرة المهمة تعاطت مع الفنون والعلوم وفلسفة التاريخ، فمن الواضح أن شغفه الأساسي خلال سنواته الأخيرة انصبَّ على علم النبات الذي خصص له مجموعة من الرسائل أمستْ بعدَ ترجمتها للإنجليزية مرجعًا شهيرًا في هذا العِلْم في إنجلترا. ولقد أشعل مؤلَّفُه «أحلام يقظة جوال منفرد» ثورة من الطبيعية الرومانسية في شتَّى أرجاء أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، بينما حظِيَتْ روايتُه «إلواز الجديدة» بأوسع انتشار بين القُرَّاء في زمانه. علاوة على ذلك، يُعَدُّ مؤلَّفه «اعترافات» أهم عمل للسيرة الذاتية منذ السيرة الذاتية للقديس أوغسطين، وكذا مؤلَّفه «إميل» عُدَّ أهم عمل عن التربية بعد كتاب «الجمهورية» لأفلاطون. ومع ذلك، فقد حقق روسو أوسع شهرة له كفيلسوف أخلاقي ومفكر سياسي.


لقد قُدِّر لمحل ميلاده وطفولته المبكرة أن يتركا انطباعات عميقة على حياته ونموه الفكري. وُلد روسو عام ١٧١٢ في جنيف، وكانتْ مدينة صغيرة يعتنق أهلُها الكالفينية وتُحيط بها مجتمعات كبيرة كاثوليكية في الأغلب الأعم؛ فكانت دولة جبلية تحميها من أيِّ غزو حدودُها الطبيعية والثقافةُ السياسية لمواطنيها، والأهم من ذلك أنها كانت جمهورية في وسط دوقيات وممالك. وعندما وصف روسو لاحقًا كاهن سافوي في روايته «إميل» وهو يَدِين بالإيمان لربٍّ تصل إليه من خلال الفطرة لا الوحي المُنزل من السماء، على تلٍّ يُطِلُّ على إحدى المُدُنِ، تخيل صورة لتواصُل مباشر بين رجل وخالِقِه كذلك الذي يمكن أن يشاركه إياه قليل من سكان المدن الأخرى التي يعرفها. وفي معارضتهم للحكم الاستبدادي والامتيازات التي تُمنَح للمنتمين للطبقة الأرستقراطية والتي تقوم على الفساد والرشوة، اعتبر كثير من مفكري القرن الثامن عشر الملوكَ التقدميين حلفاءَ لهم في قضية الإصلاح. لكن روسو لم يُبدِ أيًّا من الثقة التي تحلى بها معاصروه في احتمال وجود حكم مطلق مستنير. وبينما دفع وجود التزام راديكالي، وهو الذي قلَّل منه الخوف من الرقابة، لدى ديدرو وفولتير وغيرهما لنشر مؤلفاتهم دون وضع أسمائهم عليها، استغلَّ روسو كل فرصة سانحة له لينشر أعماله بتوقيع «مواطن من جنيف»، ولم يكفَّ عن ذلك إلَّا بعدَ أنِ اقتنع بأنَّ بني وطنه فقدوا بُوصلتَهُم بشكلٍ كامل. ولم يَكُنْ أيٌّ من رموز التنوير أكثر من روسو عداءً للمسار الذي اتخذتْه الحضارة السياسية، ولم يكن أيٌّ منهم في الوقت نفسه فخورًا بهويته السياسية شأنه


بيانات الكتاب

الأسم : روسو
المؤلف : روبرت ووكلر
المترجم :أحمد محمد الروبي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget