الدَّادائية والسِّريالية لــ ديفيد هوبكنز




كانت بدايات القرن العشرين فترةَ تغيُّر عنيف؛ إذ غيَّرتِ الحربُ العالمية الأولى والثورة الروسية فهْمَ الناس لعوالمهم على نحوٍ جذري، وحوَّلتِ اكتشافاتُ فرويد وأينشتاين والابتكارات التكنولوجية لعصر الآلة الوعيَ البشري بشكل عميق. ومن وجهة نظر ثقافية، سجَّلت روايات جيمس جويس وأشعار تي إس إليوت — وأقصد تحديدًا رواية «عوليس» للأول، وقصيدة «الأرض الخراب» للثاني، اللتين نُشِرتا عام
١٩٢٢ — أنماطًا «حداثية» جديدة بشكل مميز للشعور والإدراك، تتَّسِم بإحساس واضح بالانقطاع؛ ولذا يرى المُنَظِّر مارشال بيرمان أن الإحساس المتزامن بالبهجة والكارثة الوشيكة، الذي يعكس الظروفَ المضطربة للحياة آنذاك، هو المحدِّد للوعي الحداثي.
تعكس الحركات الفنية في أوائل القرن العشرين بقوةٍ هذه العقليةَ الجديدة. وإذ كانَتْ حركاتٌ مثل التكعيبية والمستقبلية — اللتين بلغتَا ذروتهما خلال الفترة ما بين عامَيْ ١٩١٠ و١٩١٣ — مبتكرةً بجرأة نادرة من الناحية الفنية، فقد انتقلت إلى ما وراء المَظهَر الساكن للرسم التقليدي، وصولًا إلى استكشاف بنية الوعي نفسها. ولكنْ، يُشاع أننا يجب أن ننظر إلى الدادائية والسريالية بحثًا عن الاستكشافات الأكثر أثرًا للنفس الحداثية، لا سيما أن الحركتين شدَّدتَا بقوةٍ على الاستقصاء العقلي. لقد رأتِ الدادائيةُ نفسَها تحديدًا معنِيَّةً بإعادة تمثيل الاضطراب النفسي الناجم عن الحرب العالمية الأولى، بينما يمكن النظر إلى اللاعقلانية التي تَحتَفِي بها السرياليةُ كقبولٍ تامٍّ للقُوَى الفاعلة وراء كواليس الحضارة. يوجز هذا الفصلُ السجِلَّات التاريخية المتضارِبة لكلتا الحركتين، ولكنْ لنطرح السؤال التالي أولًا: ما التوجُّه الذي يربط بينهما وبين الحركات الفنية الأخرى التي ظهرت في أوائل القرن العشرين؟


الطليعية
كانت الدادائية والسريالية حركتين فنيتين «طليعيتين» بالأساس، وكان لاصطلاح «الطليعية» — الذي وَظَّفَه أولَ مرة الاشتراكيُّ الفرنسي اليوتوبي هنري دي سان سيمون في عشرينيات القرن التاسع عشر — دلالاتٌ عسكرية، لكنه ما لبث أن دلَّل على الوضع الاجتماعي-السياسي وكذلك الجمالي الذي ينبغي أن يصبو إليه الفنان الحداثي. بصفة عامة، كان الفن في القرن التاسع عشر مرادِفًا للفردية البرجوازية، وإذ كانت الطبقةُ البرجوازية تملكه، أو كان يُعرَض في مؤسسات برجوازية؛ كان الفن وسيلةً يستطيع بها المنتمون إلى تلك الطبقة الفرارَ مؤقتًا من القيود والتناقضات المادية للحياة اليومية. لكنْ في خمسينيات القرن التاسع عشر تحدَّتْ واقعيةُ الرسَّام الفرنسي جوستاف كوربيه هذا الوضع؛ ويُقال إن جوستاف كوربيه بمزجه بين الأجندة الاشتراكية والعقيدة الجمالية المضاهية لها يمثِّل أولَ اتجاهٍ طليعي واعٍ لذاته في الفن. بحلول بداية القرن العشرين، الْتَزَم العديد من الحركات الفنية الرئيسية — كالمستقبلية في إيطاليا، والبنائية في روسيا، أو الفن التشكيلي الجديد (دي ستايل) في هولندا، علاوة على الدادائية والسريالية — بالطعن في أي فصل بين الفن والتجربة العارضة للعالم الحداثي؛ وكانت الأسبابُ التي دَعَتْها إلى ذلك سياسيةً من عدة أوجه؛ على سبيل المثال: كان البنائيون يستجيبون مباشَرةً للثورة البلشفية في روسيا، لكنهم نزعوا إلى التشارك في الاعتقاد بأن الفن الحديث بحاجة إلى إقامة علاقة جديدة بجمهوره؛ بحيث يُنتِج أشكالًا جديدة راسخة لموازاة التحوُّلات في التجربة الاجتماعية. بالنسبة إلى المُنَظِّر الثقافي بيتر بيرجر، فقد كتب في سبعينيات القرن العشرين أن مهمة الطليعية الأوروبية في أوائل القرن العشرين كانت تتمحور في مجملها حول تقويض فكرة «استقلالية» الفن (الفن لأجل الفن)، لصالح إدراج جديد للفن فيما يُطلق عليه اسم «التطبيق العملي للحياة»


بيانات الكتاب

الأسم : الدَّادائية والسِّريالية
المؤلف : ديفيد هوبكنز
المترجم :أحمد محمد الروبي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget