التطوُّر لــ برايان تشارلزوورث



من أَجْل فهْمِ الحياة على كوكب الأرض، نحتاج إلى معرفة الكيفية التي تعمل بها أجسام الحيوانات (ومن بينها البشر) والنباتات والميكروبات، وصولًا إلى مستوى العمليات الجزيئية التي يقوم عليها هذا العمل. هذا هو السؤال الخاص ﺑ «الكيفية» في علم الأحياء، وقد أَنتَج كمٌّ هائل من البحوث على مدار القرن
الماضي تقدُّمًا عظيمًا نحو الإجابة على هذا السؤال. وقد بيَّن هذا الجهد أنه حتى أبسط الكائنات القادِرة على الوجود بشكل مستقِلٍّ — الخلية البكتيرية — هي ماكينة ذات تعقيد بالِغ، بها آلاف الجزيئات البروتينية المختلفة التي تعمل على نحو متناسِق فيما بينها من أجْل أداء الوظائف اللازمة لبقاء الخلية، ومِن أجْل انقسامها كي تُنتِج خليتين وليدتين (انظر الفصل الثالث). وهذا التعقيد يَصِير أكبر من هذا في الكائنات الأعلى كالذباب أو البشر؛ فهذه الكائنات تبدأ حياتها على صورة خلية وحيدة، مكوَّنة من خلال اندماج بويضة مع حيوان منوي، وبعد ذلك تحدث سلسلة محكومة على نحو دقيق من عمليات الانقسام الخلوي، مصحوبة بتمايُز الخلايا الناتجة إلى العديد من الأنواع المستقِلَّة. وفي نهاية المطاف تُنتِج عمليةُ النمو الكائنَ البالِغَ، ذا البنية العالية التنظيم المؤلَّفة من مختلف الأنسجة والأعضاء، وذا القدرة على أداء سلوك معقَّد. إن فهمنا للآليات الجزيئية التي يقوم عليها هذا التعقيد في البنية والوظيفة آخِذٌ في التوسُّع بشكل سريع. وبالرغم من أنه لا يزال هناك العديد من المشكلات غير المحلولة، يظل البيولوجيون مقتنعين بأنه حتى أعقد سمات الكائنات الحية، مثل الوعي الإنساني، إنما هي انعكاس لعمل عمليات كيميائية وفيزيائية قابِلة للتحليل العلمي.


وعلى كل المستويات — من بِنْية أيِّ جُزَيْء بروتيني منفرد ووظيفته إلى تنظيم المخ البشري — نرى العديد من الأمثلة على «التكيُّف»؛ ونعني به ملاءمة البِنْية للوظيفة على النحو الذي يَظهَر أيضًا في الماكينات التي يُصمِّمها البشر (انظر الفصل الخامس). كما نرى أيضًا أن الأنواع المختلفة لها خصائص متمايِزة، تَعكِس غالبًا عمليات التكيُّف مع البيئة التي تعيش هذه الأنواع فيها، وهذه الملاحظات تُثِير سؤالَ «لماذا» في علم الأحياء، والمعنيَّ بالعمليات التي تسبَّبت في كون الكائنات على النحو الذي هي عليه. قبل ظهور فكرة التطور، كان من شأن أغلب البيولوجيين أن يُجيبوا على هذا السؤال بالقول بوجود خالِقٍ. استُحدث مصطلح التكيُّف على يَدِ علماء لاهوت في القرن الثامن عشر زعموا أن مَظهَر التصميم في سمات الكائنات الحية يُثبِت وجود قوة غيبية هي التي قامت بعملية التصميم. وبالرغم من أنه تمَّ إثبات خطأ هذا الزعم من الناحية المنطقية على يد الفيلسوف ديفيد هيوم في منتصف القرن الثامن عشر، فإنه ظلَّ مسيطِرًا على أذهان الناس في ظل غياب أي بديل آخَر جدير بالتصديق.
تُقدِّم الأفكار التطورية مجموعةً من العمليات الطبيعية التي يُمكِنها تفسيرُ التنوع الشاسع للأنواع الحية، والخصائص التي تجعلها متكيِّفة بهذه الدرجة الطيِّبة مع بيئاتها، دون اللجوء لحجة التدخل الغيبي. وهذه التفسيرات تمتدُّ، بطبيعة الحال، إلى أصل النوع البشري نفسه، وهذا جعل التطورَ البشري أكثرَ الموضوعات العلمية إثارةً للجدل. لكن إذا تناولنا هذه القضايا دون تحيُّز سابق، فمن الممكن رؤية أن الأدلة المؤيِّدة للتطور بوصفه عملية تاريخية، لا تَقِلُّ قوةً عن تلك المؤيِّدة لنظريات علمية أخرى راسخة منذ وقت بعيد، مثل الطبيعة الذرية للمادة (انظر الفصلين الثالث والرابع). لدينا أيضًا مجموعة من الأفكار المُتحقَّق منها جيدًا بشأن مسبِّبات التطور، وإن كان هذا لا يمنع — كما هو الحال في أي فرع علمي مَتِين — وجودَ مشكلات مستعصية على الحلِّ، إضافةً إلى ظهور أسئلة جديدة مع تزايُد فَهْمنا (انظر الفصل السابع).
يتضمن التطور البيولوجي تغيُّرات تحدث على مرِّ الزمن في خصائص تجمعات الكائنات الحية، ويتفاوت النطاق الزمني لهذه التغيرات ومقدارها تفاوتًا ضخمًا. من الممكن دراسة التطور خلال فترة حياة شخص، حين تحدث تغيرات بسيطة في سِمَة منفردة، كما هو الحال عند زيادة معدل السلالات البكتيرية المقاوِمة للبنسيلين، في غضون سنوات قليلة تالية على الاستخدام الواسع الانتشار للبنسيلين في السيطرة على العدوى البكتيرية (وهو ما سنناقشه في الفصل الخامس). على طرف النقيض، يتضمن التطور أحداثًا مثل ظهور تصميم رئيسي جديد للكائنات، وهو ما قد يستغرق ملايين السنوات ويتطلب تغيرات في العديد من الخصائص المختلفة، كما في الانتقال من الزواحف إلى الثدييات (انظر الفصل الرابع). من الأفكار المحورية لمؤسِّسَيِ النظرية التطورية، تشارلز داروين وألفريد راسل والاس، فكرةُ أن التغيُّرات على كل المستويات من المرجَّح أن تتضمن الأنواع نفسها من العمليات. والتحولات التطورية الكبيرة تعكس بدرجة كبيرة النوعَ ذاته من التغيرات التي تعكسها الأحداث الصغيرة المتراكِمة على امتداد فترات زمنية أطول (انظر الفصلين السادس والسابع).
في النهاية يعتمد التغيُّر التطوري على ظهور أشكال متنوعة جديدة من الكائنات؛ أي «طَفَرات»، وهذه الطفرات تسبِّبها تغيُّرات مستمرة في المادة الوراثية، المنقولة من الوالدين إلى الأبناء. إن الطفرات التي تؤثِّر على جميع الخصائص الممكِنة في العديد من الكائنات المختلفة قد خضعت للدراسة في المختبر على يد علماء الوراثة التجريبيين، وصنَّف علماء الوراثة الطبية آلاف الطفرات في التجمعات السكانية البشرية. إن تأثيرات الطفرات على الخصائص القابلة للرصد للكائن تتباين بشدة من حيث قوتها؛ فبعض الطفرات ليس لها تأثير قابل للرصد، ومن المعروف أنها توجد فقط لأنه صار من الممكن الآن دراسة بنية المادة الوراثية مباشَرةً، كما سنصف في الفصل الثالث. لطفرات أخرى تأثيرات صغيرة نسبيًّا على سمة بسيطة، مثل تغيير لون العين من البني إلى الأزرق، أو اكتساب أحد أنواع البكتيريا مناعةً ضد المضادات الحيوية، أو تغيير عدد الشعيرات على جانب ذبابة الفاكهة. ولبعض الطفرات تأثيرات بالغة على النمو، مثل الطفرة التي تصيب ذبابة الفاكهة السوداء البطن، «دروسوفيلا ميلانوجاستر»، التي تُسبِّب نمو ساق في رأس الذبابة في مكان قرن الاستشعار. إن ظهور أي طفرة جديدة من نوع خاص لَهُو حَدَثٌ نادر للغاية، يَصِل معدَّل حدوثه إلى واحد في كل مائة ألف فرد لكل جيل، أو حتى أقلَّ من ذلك، وأي تغيير في حالة الصفة نتيجةً لطفرة — مثل مقاومة المضادات الحيوية — يحدث في البداية في فرد واحد، وعادةً ما يكون مقصورًا على نسبة صغيرة من تجمع تقليدي لأجيال عديدة. وكي تتسبب الطفرة في تغير ثوري، لا بد أن تتسبب عمليات أخرى في جعلها تزداد تواترًا داخل ذلك التجمع.



بيانات الكتاب

الأسم : التطوُّر
المؤلف : برايان تشارلزوورث
المترجم :محمد فتحي خضر
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget