التعددية الثقافية لــ علي راتانسي



نشرتُ في أوائل تسعينيات القرن العشرين — في كتاب «العِرْق والثقافة والاختلاف» — نقدًا لكل من التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية كما كانتا تمارسان آنذاك في المملكة المتحدة، لا سيما في مجال التعليم. وأشرتُ إلى أن أنصار التعددية الثقافية ينظرون إلى الثقافات العرقية نظرة تبسيطية على أنها متجانسة وذات خصائص ثابتة وأساسية وجوهرية، ورأوا أن المجتمعات متعددة الثقافات هي «آنية سَلطة» تحتوي على ثقافات عرقية منفصلة لا تمس إحداها الأخريات. وقد عملوا أيضًا بموجب تعريفات إشكالية للعنصرية باعتبارها تحيُّزًا غير عقلاني يمكن القضاء عليه من خلال التثقيف عن الثقافات «الأخرى» حسبما تُعرِّفها خصائص سطحية مثل
فنون الطهي والأزياء. إلا أن مناهضي العنصرية — الذين أشاروا صوابًا إلى أن التثقيف عن الثقافات الأخرى لا يتطرَّق إلى معالجة العنصرية المتأصلة لدى ثقافة الأغلبية — نزعوا إلى العمل بموجب نظرة اختزالية للعنصرية باعتبارها نتاج أوجه التفاوت الطبقي، وباعتبارها — مثلما رأى أنصار التعددية الثقافية — نتاج نوع من «الوعي الزائف».
لكن من الناحية العملية، كان البساط في سبيله إلى أن يُسحَب على نحو هائل من تحت أقدام أنصار كل من التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية على يد حكومة السيدة تاتشر، وذلك بإلغاء مجلس لندن الكبرى عام ۱۹٨٦، الذي كان قد استهلَّ بعض سياسات التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية في مجال التعليم وغيره من المجالات، إضافةً إلى ما صاحب ذلك من سخرية بعض وسائل الإعلام من هذه الأهداف. وفي تلك الأثناء، كانت ردة فعل عنيفة قد نشأت بالفعل في هولندا ضد صيغتها الخاصة من التعددية الثقافية، في حين ظل الفرنسيون — بالتزامهم بالجمهورية والعلمانية — يديرون ظهورهم رسميًّا لما اعتبروه تجاوزات «أنجلو ساكسونية» (أي أنجلو أمريكية) في إطار التجارب التي أُجريَت في ميدانَي التعددية الثقافية والاعتراف العلني بعرقيات وأديان متعددة.
وقد حاولت في هذا الكتاب أن أعلِّق على التعددية الثقافية ليس في بريطانيا فحسب، وإنما أيضًا في هولندا وفرنسا وغيرهما من أنحاء أوروبا حيثما توفِّر ذلك. على الرغم من حدوث تطورات مهمة أيضًا في كندا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وحتى بعض البلدان الآسيوية، فإنني لم أعلق عليها إلا بإيجاز شديد. فهذا الكتاب يركز بالأساس على أوروبا الغربية.
كانت نيتي هي مد الجسور بين مجالين كادا يصيران منفصلين إلى حد بعيد في إطار دراسة التعددية الثقافية: يرتكز الأول على النظرية السياسية، ويتناول قضايا على غرار كيفية التوفيق بين التعددية الثقافية — بتأكيدها على الهويات الجماعية — والدور الرئيسي الذي تضطلع به الحقوق الفردية في إطار الليبرالية التي تمثِّل عماد دساتير الدول القومية الغربية. ويقع الآخر في مجال العلوم الاجتماعية ودراسات السياسات، ويركِّز على طبيعة الانتماءات العرقية وغيرها من انتماءات الجماعات الموجودة على أرض الواقع، وعلى السمة الفعلية المميِّزة للتفاعلات القائمة بين الجماعات العرقية، ومجموعة السياسات التي طُوِّرَت بهدف استيعاب التنوع الثقافي المتنامي لدى المجتمعات الغربية وإدارته.
على أرض الواقع، يتداخل المجالان؛ فالسياسات لا بد لها من أن تولي القوانين الاعتبار الواجب؛ على سبيل المثال القوانين المعنية بحرية التعبير، التي تكرِّس الأفكار المتعلقة بالحرية الفردية. وكثيرًا ما كانت التوترات والصراعات القائمة بين مبادئ حرية التعبير من ناحية والهويات الجماعية وحساسياتها من ناحية أخرى تتحول إلى مناطق ملتهبة بحق، كما في الجدل الذي ثار بشأن سلمان رشدي لدى نشر كتابه «آيات شيطانية»، وفي اغتيال المخرج ثيو فان جوخ في هولندا، وفي نشر الرسوم الكرتونية الدنماركية للنبي محمد. إلا أن قِصَر هذا الكتاب فرض قيودًا صارمة؛ فقد تعيَّن حذف فصل كان يتناول عمل براين باري وويل كيمليكا وبيكو باريك وتشارلز تايلور، وهم من أبرز الفلاسفة السياسيين الذين عالجوا هذه القضايا، لكنني تناولت بعض القضايا ذات الصلة حول التوفيق بين الحريات الفردية والاعتراف بالهويات الجماعية في فصول عدة من هذا الكتاب.
سأحصر نفسي حاليًّا في نقطتين رئيسيتين؛ أولًا: كان ثمة سوء فهم كبير متعلِّق بالتناقض المفترض بين حقوق الجماعات وحقوق الأفراد. على سبيل المثال، الاستثناءات التي تسمح للسيخ بارتداء العمامات بدلًا من الخوذات الواقية ليست ضربًا من ضروب المعاملة الخاصة التي تتيح لحقوق الجماعات أن تنتصر على حقوق الأفراد، بل إن الحق في ارتداء العمامات بدلًا من الخوذات الواقية يمارسه الأفراد بصفتهم أفرادًا، ولا يحق للجماعة ككل أن تجبر أي فرد سيخي على ارتداء العمامة؛ فالجماعة لم تُعطَ حقوقًا تميزها على أفرادها. وثانيًا: كما يتضح من اختياري للعبارات المقتبسَة التي استهللت بها هذه المقدمة، أرى أن ما يُفترَض أن يكون ممارسات ثقافية تقليدية لا يجوز أن يُسمَح له بإلغاء اعتبارات حقوق الإنسان الأساسية وقدرة أعضاء أي جماعة عرقية على الانشقاق عن التقاليد الثقافية المفترَضة لجماعاتهم العرقية. وتتصدَّر هذه القضية على نحو خاص تناولي لقضية النوع والتعددية الثقافية في الفصل الثاني. ويتبع ذلك أنه لا مجال للنسبية الثقافية مكتملة الأركان في إطار التعددية الثقافية، والواقع أن أي تمعُّن في كتابات أنصار التعددية الثقافية سوف يكشف أنه ما من أحد منهم مدان بالنسبية الثقافية الشاملة التي كثيرًا ما يُتهمون بها.
لا ريب أن التعددية الثقافية حظيت بدعاية سلبية في السنوات الأخيرة — على أقل تقدير — وقد امتدت الآن أذرع الهجمات التي شُنَّت عليها بدايةً من ثمانينيات القرن العشرين في بريطانيا وتسعينيات القرن العشرين في هولندا إلى جميع أنحاء أوروبا الغربية. وتعرِّف الفصول المتعددة لهذا الكتاب المعنى الفعلي للتعددية الثقافية، وتقيِّم الشكاوى المقدَّمَة ضدها مقابل الأدلة المتاحة. وقد توصَّلتُ إلى أن أغلب الاتهامات الموجَّهة إلى التعددية الثقافية كما تُعرض في النقاشات العامة إما مضلَّلة أو مبالَغ فيها حينما توضَع في مواجهة الأدلة المستمَدَّة من الأبحاث التي يجريها علماء الاجتماع وتلك التي تُجرى لأغراض التحقيقات الحكومية.



بيانات الكتاب


الأسم : التعددية الثقافية
المؤلف :  علي راتانسي
المترجم : لبنى عماد تركي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 145 صفحة
الحجم : 9ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget