الجزيئات لــ فيليب بول




تخيل لو كانت السيارةُ ذاتُ المحرك مثلَ جسم الإنسان؛ بحيث لا تستمر في السير بسرعتها القصوى إلا لمسافات قصيرة فحسب، وهكذا لا يستطيع سائقها أن يقودها على الطريق بسرعة تزيد عن ٨٠ ميلًا في الساعة مثلًا (لنَقُل هذا بأمانة)؛ إذ لن يستطيع عمل ذلك إلا في رحلة مسافتها نصف ميل إلى بعض المحال التجارية. وكلما تَعيَّن عليه القيادة لمسافة أبعد، صار عليه أن يسير بسرعة أبطأ، حتى لا تُستهلك السيارة سريعًا. (لعلك قدتَ أنت أيضًا، مثلي، سيارات لها تلك الصفات!)
من السطح، نقول إن السيارات والبشر أكثر تماثلًا مما قد يتخيل المرء، ولكن ليس للأسباب التي قد يفترضها فلان أوبريان؛١ فكلٌّ منهما يحصل على طاقته بحرق الوقود الغني بالطاقة في وجود الأكسجين، وكلٌّ منهما يطلق عادمًا من ثاني أكسيد الكربون، إلا أن السيارات لا تتعب إذا تحركت بسرعة مقاربة لسرعتها القصوى لفترات طويلة من الزمن، فما دمتَ تعيد ملء خزان الوقود، فبإمكان السيارة أن تنطلق إلى ما لا نهاية. أما البشر فلا يستطيع أيٌّ منهم العَدْو بسرعة كبيرة لمسافة طويلة كمسافة الماراثون بكاملها، حتى لو كانوا يتناولون الجلوكوز باستمرار أثناء الجري؛ فما السبب يا ترى؟
هذا السؤال يقودنا إلى الآليات الجزيئية التي تُشغِّل الجسم، والتي تُعرف بالعمليات الأيضية. بطرق كثيرة، يكون الأيض وليس التضاعف التكاثري هو ما يعطي أفضل تعريف عملي للحياة. قد يقول علماء البيولوجيا التطورية إننا نعيش كي نتكاثر. ولكن الحقيقة غير ذلك؛ فالبشر لا يحاولون التكاثر طوال الوقت، حتى أكثرهم إقبالًا على المغامرات الغرامية. ولكن لو توقفت أجسادنا عن الأيض، ولو لدقيقة واحدة أو اثنتين، فسنقضي نَحْبنا لا محالة.
جسَّ يدك تجدها دافئة (فإذا لم تجدها كذلك، فجرِّب إبطيك أو لسانك)؛ ففي المعتاد تكون أجسادنا أدفأ من الوسط المحيط بها. وسواء أكُنَّا مستيقظين أم نائمين تبقى أجسامنا محتفظة بدرجة حرارة طبيعية تعادِل ٣٧ درجة مئوية تقريبًا. وهناك وسيلة وحيدة فقط لتحقيق هذا، وهي أن تستمر خلايانا في إنتاج الحرارة باعتبارها ناتجًا ثانويًّا للأيض. فليست الحرارة هي المقصد هنا، ولكنها مجرد أمر لا سبيل لتجنبه؛ لأن كل ما يحدث من تحوُّل للطاقة من صورة لأخرى يبدد بعضًا من الحرارة بهذه الكيفية. وعملياتنا الأيضية معنية أساسًا بصنع الجزيئات، فلا تستطيع الخلايا أن تبقى على قيد الحياة دون أن تستمر في إعادة بناء نفسها؛ إذ تصنع أحماضًا أمينية جديدة للبروتينات، ودهونًا جديدة للأغشية الخلوية، وأحماضًا نووية جديدة حتى يمكنها أن تنقسم. ولا يمكن أن تتوقف عجلات الخلية عن الدوران ما دمنا أحياءً، ودوران العجلات يستهلك طاقة.
ومن ثم فإن مجتمع الخلية يشبه الرؤية التقليدية للمجتمع إبان الثورة الصناعية؛ إذ تسوده ثقافة التصنيع، ويُكرَّس جانب كبير من قوة العمل لتوليد الطاقة. هناك المئات، بل الآلاف من مصانع الطاقة في كل خلية من خلايا أكبادنا؛ حيث يكون إنتاج الطاقة على أشُده، وهي تشبه الطواحين الشيطانية السوداء في رواية ويليام بليك «أورشليم»؛ إذ تنتج نفايات إلى جانب الأشياء المفيدة، إلا أن الخلايا لديها بصفة عامة سبل أكثر فعالية لضمان عدم تلويث نفسها.
ولأن إنتاج الطاقة ضروري للحياة، يمكن أن تكون دراسة آليات الأيض أمرًا مقلقًا، فإننا نرى كم أن الحياة هشة، فإذا فسدت هذه العملية الحيوية أو تلك، فسيتعطل نظام الجسم كله، تمامًا كما تقوم بِنيتُنا الاجتماعية على أساس عدم توقف الإمداد بالكهرباء والغاز (ناهيك عن الهواء النقي والماء الكافي). وإنها لشهادة على القدرة الإبداعية للتطور أنه استطاع أن يشكل آلة (وأستميحك عذرًا عن هذا التشبيه المجازي التنويري) لها من قوة البأس ما يجعلها تدور لثمانية عقود تقريبًا — بمشيئة الله — قبل أن تصاب أجزاؤها بالتعطل أو العطب المستديم





بيانات الكتاب



الأسم : الجزيئات
المؤلف : فيليب بول
المترجم :محمد عبد الرحمن إسماعيل
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget