السحر لــ أوين ديفيز



أنثروبولوجيا السحر

شكَّلت النماذج التطورية أساس الفكر العلمي الاجتماعي المبكر في القرن التاسع عشر؛ فإبَّان تحول أوروبا إلى التصنيع في عصر التنوير، كان النقاش يركز على المكانة التاريخية للدين في تطور المجتمع. وقد رسم الفيلسوف الألماني جي دبليو إف هيجل (١٧٧٠–١٨٣١) مسارًا جديدًا لفهم التجربة الدينية العالمية في سلسلة من المحاضرات التي تناولت فلسفة الدين، نُشرت بعد وفاته عام ١٨٣٢.
وكان من بين النقاط ذات الصلة بموضوعنا أنه نسب القدْر نفسه من الأهمية لفهم كيف شكَّلت الثقافة الفكر اللاهوتي، ولفهم كيف شكَّل الدين العقل. لم يكن هيجل مهتمًّا بالسحر في حد ذاته، لكنه خصص له موقعًا في المرحلة الأولى من مراحل الدين الثلاث التي ابتكرها. وقد كانت تلك المراحل الثلاث كما يلي: الأديان التي كانت فيها الطبيعة مشبعة بالأرواح، وأديان الآلهة الممجدة الفردية فوق الدنيوية، وأخيرًا المسيحية التي اعتبرها مزيجًا «بارعًا» من المرحلتين الأخريين؛ ومن ثم، كان السحر «أقدم أشكال الدين، وأكثرها بدائية وبساطة»، والذي قال هيجل عنه إنه لا يزال موجودًا بين شعوب معينة، مثل شعب الإسكيمو.

قد يبدو من غير المحتمل أن يرد ذكر عالم السياسة الثوري كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣) في دراسة عن السحر. وهو لم يدرس قضية السحر على وجه التحديد، لكنَّ آراءه المعروفة عن الدين ذات صلة بهذا السياق، ويمكن إيجازها في عبارتيه الشهيرتين: «الإنسان هو الذي يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان.» و«الدين أفيون الشعوب.» ورغم أن ماركس الملحد كان على دراية كبيرة بفكر هيجل وناقدًا له في الوقت نفسه، إلا أنه كان متفقًا مع فكرة أن أقدم أشكال الدين ارتبطت بعبادة الطبيعة، أو ما سيطلق عليه لاحقًا المذهب «الإحيائي». مرة أخرى، كان هذا هو المنبع الذي يضرب فيه السحر بجذوره. على الجانب الآخر من التطور المجتمعي تقع الشيوعية، وهي الحد الذي يختفي عنده الدين، وقطعًا لن يكون للسحر مكان.

كان التنظير في النصف الأول من القرن معنيًّا ﺑ «مراحل» تطور تشبه المفهوم الجيولوجي المتمثل في تقسيم طبقات الأرض. ثم شهد النقاش تحوُّلًا بعد نشر تشارلز داروين كتابه «أصل الأنواع» عام ١٨٥٩؛ فقد بات نموذج التطور البيولوجي ومصطلحاته يطبقان على التطورين الاجتماعي والثقافي. وإبان ذلك، احتلت فئة السحر مكانًا أكثر أهمية، ودخل «العلم» الخطة باعتباره نموذج التطور البشري. لم يكن هذا يعني أن تعريفات السحر ستصبح أكثر وضوحًا، بل على العكس، ازداد فهم السحر تشوشًا.

كان العلَّامة والمُنظِّر الاجتماعي البريطاني هربرت سبنسر (١٨٢٠–١٩٠٣) أول من نشر نموذجًا تطوريًّا اجتماعيًّا صور فيه السحر على أنه يحدد نموذجًا بدائيًّا للدين يقوم على العلاقات المتجانسة وعبادة الأسلاف، ولكنه — كممارسة — قابِل للتكيف مع تطور الدين، بحيث يستطيع الدين والسحر التعايش معًا. لكن منافسه إدوارد بيرنت تايلور (١٨٣٢–١٩١٧) هو الذي أثار مخيلة الدارسين — بصفته أول أستاذ في علم الأنثروبولوجيا في جامعة أكسفورد — وأكد كون السحر موضوعًا رئيسيًّا في بحوث الأنثروبولوجيا؛ فقد وضع في كتابه المنشور في مجلدَين «الثقافة البدائية» (١٨٧١)، نموذجًا يذهب إلى أن الحالة الإنسانية كانت عالمية، لكنها تطورت بمعدلات مختلفة. وعلى حد قوله، فإن «الفكر الهمجي» يمكنه أن يتواجد في المجتمع المتحضر الحديث، بل وتواجد بالفعل.

ويرى تايلور أن السحر كان موجودًا في بادئ الأمر باعتباره تعبيرًا عن فكرة «الإحيائية»، التي ترى أن الأشياء — وكذلك البشر — لها أرواح أو جوهر روحاني. وكان الفكر الإحيائي والسحر سمة للشعوب «التي تحتل مراتب دنيا على مقياس الإنسانية»، ثم تطور الدين كفئة مستقلة من مفهوم الروح البشرية، ثم كانت الخطوة التطورية التالية هي التحول من الشرك إلى التوحيد؛ وهذا النموذج يضاهي نموذج هيجل. وقد صاغ تايلور مصطلح «الباقيات» للتعبير عن عناصر الثقافة البدائية التي استطاعت البقاء على قيد الحياة في العالم المعاصر، والتي أتاحت دراستها رصد التطور التبايني للمجتمعات. بعبارة أخرى، لم يكن الأمر مسألة إعادة بناء متطلعة نحو الماضي. والأدلة على حدوث عملية التطور منتشرة من حولنا في عادات «القبائل البدائية» والفلاحين الأوروبيين، تمامًا مثلما عثر داروين على أدلة لها في عالم الحيوان.

صك تايلور أيضًا مصطلح «العلم الزائف» لوصف السحر. وكان يعني بهذا أن السحر — على غرار العلم — يفسر العلاقة السببية بين الأشياء ويستغلها. لكنه علم فاسد؛ لأن افتراضاته وتفسيراته البدائية حول السبب والنتيجة كانت دائمًا خاطئة. لم تكن أجندة تايلور مجرد أجندة باحث علمي متجرد؛ لأنه كان يؤمن أن الأنثروبولوجيا ينبغي أن تكون لها أجندة إصلاحية واضحة. وفي حين أنه لم يكن مدافعًا عن الدين المنظم، فإنه وجَّه هجومه في المقام الأول إلى السحر، الذي وصفه بأنه «توليفة وحشية»، و«أحد أخبث الأوهام التي حيرت الجنس البشري.» وقد شبَّه الثقافات البدائية بالأطفال لأنها تحتاج مثلهم إلى توجيه كي ترتقيَ إلى مرحلة أعلى من الفكر.

أحدثت وجهات نظر تايلور تأثيرًا هائلًا، لكن أستاذ علم الأنثروبولوجيا بجامعة كامبريدج جيمس فريزر (١٨٥٤–١٩٤١) هو الذي قدم النموذج التطوري لنطاق أوسع من الجمهور؛ فقد ترك فريزر — الذي صرح بأنه استلهم عمله من أعمال تايلور — بصمته الخاصة على النظرية؛ فقد وضع في مرجعه الكلاسيكي المؤلف من ثلاثة عشر مجلدًا «الغصن الذهبي» (١٨٩٠–١٩١٥) نموذجًا واضحًا من ثلاث مراحل للتطور الفكري الإنساني: من السحر إلى الدين إلى العلم. وجميع المجتمعات تحقق التقدم في نهاية المطاف عبر هذه المراحل الثلاث. وكان فريزر أيضًا أكثر وضوحًا من تايلور في التمييز بين السحر والدين، وقال بأن السحر جاء قبل الدين، وأن الدين — الذي عرَّفه بأنه «إيمان بقوًى أعلى من قدرة البشر، ومحاولة لاسترضائها أو استعطافها» — يتعارض عمومًا مع السحر الذي يفترض أن السيطرة للبشر. لكن الدين نشأ عن إدراك أن السحر قد فشل. وبقوله هذا نفهم أنه تقبل أن «ممارسات» السحر لا تتعارض مع «الأفكار» الدينية. وقد وسع فريزر نطاق المقارنة بين السحر والعلم؛ فالسحر بمنزلة «أخت غير شرعية للعلم»، قائم على قانونين مغلوطين: أولهما قانون العدوى؛ أي إن الأشياء التي كانت في وقتٍ ما على اتصال مع بعضها تظل تربطها علاقة حتى لو فصلت بينها المسافات. أما الثاني فهو قانون التشابه، الذي يذهب إلى أن النتائج تشبه مسبباتها. لكن إذا ما ثبت يومًا أن السحر صحيح وفعال، «فهو ليس سحرًا إذنْ، وإنما علم».



بيانات الكتاب


الأسم : السحر
المؤلف :  أوين ديفيز
المترجم : رحاب صلاح الدين
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 138 صفحة
الحجم : 5ميجابايت
الطبعة الأولى 2014 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget