الحفريات لــ كيث طومسون




هناك أمر محير في مجال علمي أُسِّس بأكمله على الكائنات التي صارت مهمة بالنسبة لنا فقط بعد موتها، بل ولموتها. إن الحفريات تخلب ألبابنا عندما تكون مختلفة تمامًا عن حياتنا المعاصرة على الأرض، ويفصلها عنا فترات زمنية لا نكاد نتخيَّلها، وكذلك عندما تربط بين الأنواع الحية مثلنا نحن وبين أجدادنا
المباشرين. أيًّا كان العصر الذي جاءت منه، فإن تلك الكائنات الميتة التي عاشت في أزمنة أخرى تمثِّل بالنسبة لنا خيالًا، وفي الوقت نفسه تبدو مألوفة على نحو غريب. إن الحفريات تكشف لنا عن عوالم بالغة القدم سكنتها وحوش غريبة ونباتات عجيبة، كان وجودها يشبه عالمنا المعاصر بصورة غريبة، ومع ذلك فهو مختلف عنه بصورة تخلب الألباب؛ فهي لا تأسر خيالنا فحسب، وإنما تختبر كذلك أفكارنا عن الحياة نفسها. وفي الواقع، من المستحيل أن نتخيَّل كيف كانت نظرتنا الراهنة للعالم ولأنفسنا ستتغير لو لم نكن نعلم شيئًا عن الحفريات على الإطلاق.

الحفريات قبل عصر التنوير

رغم أن تقبل جمهور العامة لمسألة الطبيعة العضوية للحفريات — أي كونها بقايا كائنات كانت حية ذات يوم حُفظت داخل الصخور ثم تحولت هي نفسها إلى صخر — لم يتحقَّق إلا مع مطلع القرن التاسع عشر، فإن علم المتحجِّرات المعاصر بدأ في الثلث الأخير من القرن السابع عشر مع كتابات روبرت هوك (في «ميكروجرافيا» ١٦٦٥، و«محاضرات ومقالات عن الزلازل» ١٦٦٨)، تلاها عام ١٦٦٩ مؤلَّف «بحث تمهيدي» لنيلز ستينسن (سُمي لاحقًا نيكولاي ستينونيس ويدعى الآن باسم ستينو وحسب). كان هوك عبقريًّا بحق كما كان عضوًا متعدِّد الثقافات بالجمعية الملكية بلندن، وقد درس فيما يبدو علم الجيولوجيا بصورة غير رسمية على الإطلاق. أما ستينو — الذي لم يكن يقل عنه عبقرية — فكان في البداية متخصصًا في التشريح بجامعة ليدن ثم لدى البلاط الملكي لآل ميديتشي بفلورنسا. وقد كرَّس سنوات من عمره لدراسة جيولوجيا إقليم توسكانا، قبل أن يتَّجه إلى حياة من التفاني وإنكار الذات قسًّا وأسقفًا كاثوليكيًّا.



قبل هوك وستينو، كانت تفسيرات الطبيعة وأسباب تكون الحفريات الشغل الشاغل لدى الفلاسفة على اختلاف توجهاتهم. وكانت أولى العقبات في وجه الكشف عن أسرار الحفريات هي أن أيسر مكان يمكن العثور عليها به عند الجروف والجبال. فإذا كانت تلك الحفريات بقايا أسماك ورخويات حقيقية، فكيف وصلت إلى هناك؟ لم يكن يبدو ممكنًا أن تكون الأرض تغيَّرت بهذا الشكل، حتى إن ما كان قاعًا للبحر ذات يوم صار الآن يرتفع عن سطح الأرض لآلاف الأمتار. وجاء ليوناردو دافنشي ليقدم ما بدا أنه الإجابة الوحيدة الممكنة: أن مستويات سطح البحار قد انخفضت؛ وقد قدم ستينو تفسيرًا مماثلًا. أما هوك — من ناحية أخرى — فأصر على أن الجبال ارتفعت من قاع البحر بفعل الزلازل والحرارة الداخلية للأرض. وبدون ميزة الفهم المتقدم للقوى العملاقة التي (عادةً) تشكل وتغير من طبيعة كوكب الأرض بصورة لا تدركها حواسنا، وبدون فهم المدى الهائل للأزمنة الجيولوجية، كانت تلك التفسيرات ستبدو على أفضل تقدير لا يمكن تصديقها.

كانت هناك صعوبة أخرى تكمن في أن الكائنات التي تحوَّلت إلى حفريات مختلفةٌ بصورة ملحوظة عن الأنواع التي تعيش الآن. فهل كانت نسخًا معيبة من الأنواع الحديثة أم أنها كانت «انحرافات شاذة عن الطبيعة السوية»؟ كان مفهوم «الانقراض» واضحًا بالنسبة لهوك، غير أنه كان يتعارض بصورة مباشرة مع التفسير التوراتي للخلق الذي يتحدَّث عن واقعة خلق وحيدة؛ إذ كانت فكرة الانقراض تعني ضمنًا أنه كانت هناك أكثر من حلقة في مسلسل الخليقة، وأن الإله عندما سمح لتلك المخلوقات بالانقراض كان كمن غيَّر رأيه أو حتى أقرَّ بوجود أخطاء.

بيانات الكتاب

الأسم : الحفريات
المؤلف :  كيث طومسون
المترجم : أسامة فاروق حسن
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 148 صفحة
الحجم : 13 ميجابايت
الطبعة الأولى 2015 م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget