أوغسطينوس لــ هنري تشادويك



لا يمكن في مقدمة قصيرة عن فكر أوغسطينوس أن تُعرَض أيضًا سيرةٌ ذاتية له. فنظرًا لأنه كَتَب أشهر السِّيَر الذاتية القديمة وأكثرها وقعًا وأثرًا، جَذَب الجانب النفساني للرجل وشخصيته بطبيعة الحال اهتمامًا شديدًا. كان يتمتع بين القدماء بقوة لا مثيل لها على التعبير عن المشاعر. وكتاباته أيضًا تُعدُّ مصدرًا أساسيًّا للتاريخ الاجتماعي لعصره. ليس في وسع هذا الكتاب أن يتناول ذاك الجانبَ من شخصيته، لكنه يُعنى بِتَشَكُّل عقليته. وكان هذا التشكل عملية طويلة؛ حيث إنه بدَّل رأيه بخصوص بعض

النقاط، وطوَّرَ وجهة نظره بخصوص نقاط أخرى. ووصف نفسه ﺑ «الرجل الذي يكتب وهو يتطور، والذي يتطور وهو يكتب» (الرسائل Epistulae). وكانت التحولاتُ التي شهدها وثيقةَ الصلة بضغوط الخلافات المتعاقبة التي لعب فيها دورًا؛ ولذا فإن الإشارة المرجعية للبيئة التاريخية محوريةٌ للفهم. ولكننا، بخلاف ذلك، لسنا معنيين هنا ﺑ «حياته وأيامه».


وُلد أوريليوس أوغسطينوس عام ٣٥٤ ميلاديًّا وتُوفِّيَ عام ٤٣٠. وقد عاش كلَّ حياته، فيما خلا خمسة أعوام منها، في شمال أفريقيا الخاضع للحكم الروماني، وكان خلال الأربعة والثلاثين عامًا الأخيرة من عمره أسقفًا لمدينة بحرية تضج بالحركة والنشاط، كانت تُعرف آنذاك باسم هيبو، وتُمثلها الآن مدينة عنابة بالجزائر. وفي ميناء هيبو، كانت الكتب حِكرًا على القديس أوغسطينوس، ولم تكن خلفية عائلته ذات ثقافة عالية، فقد حصَّلَ هو تلك الثقافةَ من طريق التعليم. ومن خلال كتاباته التي يتجاوز ما تبقَّى منها ما وضعه أيُّ مؤلِّف قديم، أمسى يُمارس أثرًا واسعًا لا على معاصريه وحسب، بل وخلال السنوات اللاحقة أيضًا على الغرب بأسره. ويمكن إيجاز مدى هذا الأثر بواسطة سرد النقاشات التي كانت جزءًا من إرث الرجل:
(١)


كان لاهوت وفلسفة أساتذة جامعات العصور الوسطى وبُناة تلك الجامعات ضاربَيْن بجذورهما في الأفكار الأوغسطينية عن العلاقة بين الإيمان والعقل. عندما جمع بيتر لومبارد كتابه «الحِكَم» (١١٥٥) ليقدم مرجعًا أساسيًّا لعلم اللاهوت، استقى نسبةً كبيرة من أفكاره من القديس أوغسطينوس. وكذا معاصره جراتيانُ استَشهد بالعديد من النصوص من أوغسطينوس؛ إذ ألَّفَ المرجع الأساسي للقانون الكنسي.
(٢)
لم تتملَّص طموحات الصوفيين الغربيين قطُّ من أثره؛ وذلك إلى حدٍّ كبير نظرًا لمركزية فكرة حب الرب في تفكيره. لقد رأى أولًا المفارقة التي مفادها أن الحب الباحث عن السعادة الشخصية يوحي ضمنًا، بضرورة الحال، بشيءٍ من إنكار الذات وألم تحوُّل الإنسان إلى شيء بخلاف ذاته الحقيقية.
(٣)
وجد الإصلاح دعامته الأساسية في نقد التنسُّك الكاثوليكي في العصور الوسطى باعتباره يستند إلى الجهود البشرية بقدرٍ أكثر من النعمة الإلهية. وردَّت حركة الإصلاح المضاد بأن المرء يستطيع أن يؤكد سيادة نعمة الله دون أن ينكر أيضًا حرية الإرادة والقيمة (أي «الجدارة») الأخلاقية للسلوك الحسن. والْتَجأ طرفا الجدل كلاهما بدرجة كبيرة إلى نصوص أوغسطينوس.
(٤)
شهد القرن الثامن عشر انقسامًا شديدًا بين الذين يؤكدون كمال الإنسان والذين يرون طبيعة الإنسان مثقلة بثقل الغرور الشخصي والجمعي؛ وبتعبير آخر بما أطلق عليه أوغسطينوس «الخطيئة الأصلية». آمن رجالات التنوير بأن الكمال الفعلي للإنسان يُعرقله الإيمان بالخطيئة الأصلية، ولم يَرُق لهم أوغسطينوس كثيرًا. واستاءوا إذ وافق الفيلسوف كانط الذي أعلن بفصاحة شديدة المبدأ التنويريَّ الذي يقضي بأنه على المرء أن يجازف بالتفكير بنفسه على المبدأ القائل بأن الطبيعة البشرية يشوِّهها الشرُّ المتطرف المتفشي.




بيانات الكتاب

الأسم : أوغسطينوس
المؤلف : هنري تشادويك
المترجم : أحمد محمد الروبي
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget