تاريخ الرياضيات لــ جاكلين ستيدال



لا يمكن في مقدمة قصيرة عن فكر أوغسطينوس أن تُعرَض أيضًا سيرةٌ ذاتية له. فنظرًا لأنه كَتَب أشهر السِّيَر الذاتية القديمة وأكثرها وقعًا وأثرًا، جَذَب الجانب النفساني للرجل وشخصيته بطبيعة الحال اهتمامًا شديدًا. كان يتمتع بين القدماء بقوة لا مثيل لها على التعبير عن المشاعر. وكتاباته أيضًا تُعدُّ مصدرًا أساسيًّا للتاريخ الاجتماعي لعصره. ليس في وسع هذا الكتاب أن يتناول ذاك الجانبَ من
شخصيته، لكنه يُعنى بِتَشَكُّل عقليته. وكان هذا التشكل عملية طويلة؛ حيث إنه بدَّل رأيه بخصوص بعض النقاط، وطوَّرَ وجهة نظره بخصوص نقاط أخرى. ووصف نفسه ﺑ «الرجل الذي يكتب وهو يتطور، والذي يتطور وهو يكتب» (الرسائل Epistulae). وكانت التحولاتُ التي شهدها وثيقةَ الصلة بضغوط الخلافات المتعاقبة التي لعب فيها دورًا؛ ولذا فإن الإشارة المرجعية للبيئة التاريخية محوريةٌ للفهم. ولكننا، بخلاف ذلك، لسنا معنيين هنا ﺑ «حياته وأيامه».


وُلد أوريليوس أوغسطينوس عام ٣٥٤ ميلاديًّا وتُوفِّيَ عام ٤٣٠. وقد عاش كلَّ حياته، فيما خلا خمسة أعوام منها، في شمال أفريقيا الخاضع للحكم الروماني، وكان خلال الأربعة والثلاثين عامًا الأخيرة من عمره أسقفًا لمدينة بحرية تضج بالحركة والنشاط، كانت تُعرف آنذاك باسم هيبو، وتُمثلها الآن مدينة عنابة بالجزائر. وفي ميناء هيبو، كانت الكتب حِكرًا على القديس أوغسطينوس، ولم تكن خلفية عائلته ذات ثقافة عالية، فقد حصَّلَ هو تلك الثقافةَ من طريق التعليم. ومن خلال كتاباته التي يتجاوز ما تبقَّى منها ما وضعه أيُّ مؤلِّف قديم، أمسى يُمارس أثرًا واسعًا لا على معاصريه وحسب، بل وخلال السنوات اللاحقة أيضًا على الغرب بأسره. ويمكن إيجاز مدى هذا الأثر بواسطة سرد النقاشات التي كانت جزءًا من إرث الرجل:
(١)


كان لاهوت وفلسفة أساتذة جامعات العصور الوسطى وبُناة تلك الجامعات ضاربَيْن بجذورهما في الأفكار الأوغسطينية عن العلاقة بين الإيمان والعقل. عندما جمع بيتر لومبارد كتابه «الحِكَم» (١١٥٥) ليقدم مرجعًا أساسيًّا لعلم اللاهوت، استقى نسبةً كبيرة من أفكاره من القديس أوغسطينوس. وكذا معاصره جراتيانُ استَشهد بالعديد من النصوص من أوغسطينوس؛ إذ ألَّفَ المرجع الأساسي للقانون الكنسي.
(٢)
لم تتملَّص طموحات الصوفيين الغربيين قطُّ من أثره؛ وذلك إلى حدٍّ كبير نظرًا لمركزية فكرة حب الرب في تفكيره. لقد رأى أولًا المفارقة التي مفادها أن الحب الباحث عن السعادة الشخصية يوحي ضمنًا، بضرورة الحال، بشيءٍ من إنكار الذات وألم تحوُّل الإنسان إلى شيء بخلاف ذاته الحقيقية.
(٣)
وجد الإصلاح دعامته الأساسية في نقد التنسُّك الكاثوليكي في العصور الوسطى باعتباره يستند إلى الجهود البشرية بقدرٍ أكثر من النعمة الإلهية. وردَّت حركة الإصلاح المضاد بأن المرء يستطيع أن يؤكد سيادة نعمة الله دون أن ينكر أيضًا حرية الإرادة والقيمة (أي «الجدارة») الأخلاقية للسلوك الحسن. والْتَجأ طرفا الجدل كلاهما بدرجة كبيرة إلى نصوص أوغسطينوس.
(٤)
شهد القرن الثامن عشر انقسامًا شديدًا بين الذين يؤكدون كمال الإنسان والذين يرون طبيعة الإنسان مثقلة بثقل الغرور الشخصي والجمعي؛ وبتعبير آخر بما أطلق عليه أوغسطينوس «الخطيئة الأصلية». آمن رجالات التنوير بأن الكمال الفعلي للإنسان يُعرقله الإيمان بالخطيئة الأصلية، ولم يَرُق لهم أوغسطينوس كثيرًا. واستاءوا إذ وافق الفيلسوف كانط الذي أعلن بفصاحة شديدة المبدأ التنويريَّ الذي يقضي بأنه على المرء أن يجازف بالتفكير بنفسه على المبدأ القائل بأن الطبيعة البشرية يشوِّهها الشرُّ المتطرف المتفشي.




يمتد تاريخ الرياضيات حتى أربعة آلاف عام مضَتْ على الأقل، ويوجد في كل حضارة وثقافة، وربما يكون من الممكن — حتى في مقدمة قصيرة جدًّا كهذا الكتاب — أن نوجز بعضًا من أهم الأحداث والاكتشافات بترتيب زمني تقريبي. وفي الحقيقة، ربما يكون هذا ما سيتوقَّعه أغلب القرَّاء؛ ومع ذلك، قد تواجِهنا عدَّة مشكلات في هذا العرض.
أولى تلك المشكلات أن مثل هذه الروايات تنزع إلى تصوير رؤية تقدمية لتاريخ الرياضيات، يكون فيها الفهمُ الرياضي عامةً مدركًا للتطوُّر والتقدُّم نحو الإنجازات الرائعة المتحققة في الوقت الحاضر. لكن لسوء الحظ، فإن مَن يبحثون عن أدلة على هذا التقدُّم يميلون إلى التغاضي عن التعقيدات والزلَّات والطرق المسدودة، التي هي جزء يتعذَّر اجتنابه في أي مسعًى بشري، بما في ذلك الرياضيات، وأحيانًا يمكن أن يكون الفشل ملهِمًا وموحيًا مثل النجاح. وإلى جانب هذا، بجَعْل رياضياتِ الوقت الحاضرِ المعيارَ الذي تُقاس عليه المجهودات الأقدم؛ قد نخاطر بالنظر إلى إسهامات الماضي بوصفها إسهاماتٍ جريئةً، ولكنها في النهاية جهود عَفَا عليها الزمن. بدلًا من ذلك، عند النظر إلى الكيفية التي نشأَتْ بها هذه الحقيقة أو تلك النظرية، فإننا بحاجة إلى رؤية الاكتشافات في سياق زمنها ومكانها.
ثمة مشكلة أخرى، سأتكلَّم عنها فيما بعدُ أكثر من ذلك؛ هي أن الروايات الزمنية تتبع غالبًا أسلوبَ «الأحجار المتفرقة»، الذي تُوضَع فيه المكتشَفات أمامنا واحدًا بعد الآخَر، دون كل الروابط المهمة الموجودة بينها. إن هدف المؤرخ ليس مجرد تجميع قوائم تواريخ للأحداث، وإنما إلقاء الضوء على المؤثرات والتفاعلات التي أدَّت إليها؛ وسيكون هذا موضوعًا متكرِّرًا في هذا الكتاب.
وثمة مشكلة ثالثة تتمثَّل في أن تلك الأحداث والاكتشافات المهمة تأتي مصاحِبةً لأُناسٍ مهمين؛ وعلاوةً على هذا، تركِّز الغالبيةُ العظمى من تواريخ الرياضيات على أولئك الذين عاشوا في أوروبا الغربية منذ القرن السادس عشر تقريبًا، وعلى الذكور تحديدًا؛ وهذا لا يعكس بالضرورة تمركُزًا أوروبيًّا أو توجُّهاتٍ منحازةً جنسيًّا من جانب الكُتَّاب. إن التطور السريع للرياضيات في الثقافة الذكورية في أوروبا منذ عصر النهضة، أدَّى إلى قدر كبير من المادة، رأى المؤرخون — وهم مُحِقُّون — أنها تستحِقُّ البحث والاستقصاء، وإلى جانب هذا لدَيْنا ثروة من المصادر من أوروبا لهذه الفترة، تقابلها فقط حفنة، بتعبير نسبي، لأوروبا ما قبل العصور الوسطى، أو الصين أو الهند أو الولايات المتحدة. ولحسن الحظ، فإن وفرةَ المصادر وإمكانيةَ الوصول إليها في بعض هذه المناطق الأخرى في سبيلهما إلى التحسُّن. ومهما يكن، تَبْقَ الحقيقة أن التركيز على المكتشفات الكبيرة يتغافل عن الخبرة الرياضية لمعظم الجنس البشري؛ النساء، والأطفال، والمحاسبين، والمدرسين، والمهندسين، وعمَّال المصانع وغيرهم، بل يغفل أيضًا عن قارات وقرون كاملة. من الواضح أن هذا لن يفيدنا في شيء. ودون إنكارٍ لقيمة بعض الإنجازات الجديرة بالذكر (وسيبدأ هذا الكتاب بواحد منها)، فإنه يجب أن تكون هناك طرق للتفكير في التاريخ من منظور الأشخاص الكثيرين الذين يمارسون الرياضيات، وليس مجرد قلة.
لن يستطيع هذا الكتاب أن يُقوِّم التحيُّزَ الذكوري في معظم روايات تاريخ الرياضيات إلا قليلًا، ومع ذلك فإنه يستطيع أن يقدِّم أكثرَ من مجرد مجامَلة لفظية للقارات الأخرى، خلا القارة الأوروبية، وسيحاول أن يستكشف كيف وأين ولماذا مُورِسَت الرياضيات على يد أُناسٍ لن تظهر أسماؤهم أبدًا في المسارد التاريخية القياسية. ولكن يتطلَّب عمل هذا شيئًا مختلفًا عن البحث الزمني المعتاد.
النموذج البديل الذي أَقترِح تتبُّعَه هو البناء حول الموضوعات وليس الفترات. سيركِّز كلُّ فصل على حالتَيْ دراسةٍ أو ثلاث، اختيرت ليس لأنها بأية طريقة شاملة أو جامعة، ولكن على أمل أنها ستوحي بأفكار وأسئلة وطرائق حديثة في التفكير. في الوقت نفسه، وتماشيًا مع المبادئ التي صرَّحْتُ بها أعلاه، حاولتُ — حيثما كان ذلك ممكنًا — إظهارَ أوجُه الشبه والاختلاف بين القصص المختلفة؛ بحيث يكون القرَّاءُ قادرين على تكوين رؤية مترابطة لعدد قليل على الأقل من جوانب التاريخ الطويل جدًّا للرياضيات. إن هدفي ليس فقط توضيح كيفية تناول المؤرخين المحترفين الآن لفرع معرفتهم ودراستهم، وإنما توضيح الكيفية التي يمكن أن يفكِّر بها أيضًا الشخص العادي في تاريخ الرياضيات


بيانات الكتاب

الأسم : تاريخ الرياضيات
المؤلف : جاكلين ستيدال
المترجم : محمد عبد العظيم سعود
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget