ما بعد الحداثة لــ كريستوفر باتلر


أثارَ التكوين الطوبيُّ المستطيل الشكل، الذي قدَّمه الفنان كارل أندريه تحت عنوان «تساوي ٨» (١٩٦٦)، استياءَ الكثير عند عرضه في معرض تيت الفني في لندن، عام ١٩٧٦. ينتمي هذا العمل الفني بجدارة إلى عالم ما بعد الحداثة، ورغم الموضع الذي يحتله حاليًّا في معرض تيت للأعمال الفنية الحديثة، فإنه لا
يتوافق مع الكثير من مبادئ فن النحت الحديث؛ فهو ليس بالعمل المعقد أو المعبِّر على المستوى التركيبي، ولا يتمتع بجاذبية خاصة تَدفعُ للنظر إليه، وبالتأكيد يبعث سريعًا على الملل، فضلًا عن سهولة صنع عمل مماثل له. وبما أن «تساوي ٨» يخلو من أي سمات تجعله مثيرًا للاهتمام في حد ذاته (باستثناء متصوفي الأرقام من أتباع المدرسة الفيثاغورية)؛ فإنه يدفعنا إلى طرح أسئلة حول سياقه بدلًا من محتواه، مثل: «ما الهدف منه؟» أو «لماذا يُعرض في متحف؟» إذ أصبح من الضروري طرح نظرية ما حول هذا العمل الفني لتعويض الفراغ الناتج عن كونه لا يثير الاهتمام، وهو ما يعكس أيضًا سمة نموذجية إلى حدٍّ ما من سمات ما بعد الحداثة. قد يبعث العمل على طرح أسئلة من قبيل: «هل هذا فن حقًّا، أم مجرد كومة من الطوب تتظاهر بكونها فنًّا؟» لكن هذا السؤال لا يعكس الكثير من المنطق في حقبةِ ما بعد الحداثة؛ حيث من المقبول عمومًا أن المعرض «كمؤسسة» — لا أي جهة أخرى — هو ما جعل هذا العمل «عملًا فنيًّا» قائمًا بالفعل؛ فالفنون المرئية ليست سوى ما يعرضه لنا أمناء المتاحف، سواء أكانت أعمالًا لبيكاسو أم أبقارًا مقطعة شرائح، بينما تقع على عاتقنا مسئولية مواكَبة الأفكار المحيطة بتلك الأعمال.


يود العديد من فناني ما بعد الحداثة (وبالطبع حلفاؤهم من مديري المتاحف) أن ننشغل بتلك الآراء المتعلقة بالأفكار التي قد تحيط بهذا الفن «التبسيطي». إن بساطة كومة الطوب هي سمة تصميمية مقصودة، فهي تتحدى الخصائص المعبِّرة شعوريًّا التي ميَّزت الفنَّ السابق (الحداثي) وتنكرها. فمثل تمثال «المبولة» الشهير أو عجلة الدراجة الموضوعة فوق كرسي صغير للفنان دوشامب، يختبر هذا العمل ردود فعلنا الفكرية وتقبُّلنا للأعمال التي تعرضها المعارض الفنية على جمهورها. ويعكس بعض نقاط التحول الأساسية، التي تضيف بعض الافتراضات حول الفن التي تنكر طبيعته إلى حدٍّ كبير. يقول أندريه: «إن ما أحاول إيجاده هو مجموعات من الجزيئات، والقواعد التي تجمعها بأبسط طريقة.» ويزعم أن وحدات الطوب المتساوية التي قدمها «تتمتع بطابع شيوعي؛ لأن شكلها مفهوم لجميع الناس على حدٍّ سواء.»
لكن هذا العمل النحتي — رغم التفسيرات التي قد تراه مقبولًا اجتماعيًّا وثقافيًّا — لا يكاد يضاهي في متعته تمثال «القبلة» لرودين، أو الأعمال التجريدية الأكثر تعقيدًا بمراحل لنحَّاتين أمثال أنتوني كارو. إن طليعية أندريه النظرية — التي تتحدى ردود فعلنا الفكرية — تُلمح إلى أن المتع المستقاة من الأعمال الفنية السابقة هي متع مشكوك فيها نوعًا ما؛ إذ إن النزعة التطهرية و«الدعوة إلى التساؤل»، وإشعار الجمهور بالذنب أو بالاضطراب، كلها سمات ترتبط ارتباطًا وثيقًا عبر أعمال مثل هذه. وهي اتجاهات تميِّز كثيرًا من الفن ما بعد الحداثي، وغالبًا ما تتضمن بُعدًا سياسيًّا. ويواصل العمل الفني الحائز على جائزة تيرنر عام ٢٠٠١ للفنان مارتن كريد مسيرةَ هذا الاتجاه، فهو عبارة عن غرفة فارغة؛ حيث تضيء مصابيح كهربائية ثم تنطفئ.

بيانات الكتاب

الأسم : ما بعد الحداثة
المؤلف : كريستوفر باتلر
المترجم :نيڤين عبد الرؤوف
الناشر : مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
السلسلة : مقدمة قصيرة جداً
عدد الصفحات : 134 صفحة
الحجم : 21 ميجابايت
الطبعة الأولى ٢٠١٦م

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget